حسام بدراوي
كتبت منذ أسابيع مقالًا بعنوان «اختلاف المعانى وخصام التعريفات»، ودُعيت منذ أيام لحوار حول مستقبل التعليم فى مصر، ووجدتنى أعود لاحتمال اختلاف معانى الكلمات فى ذهن السائل والمُسَائَل، وقررت التدقيق والاتفاق أولًا حول التعريف والمعنى قبل الخوض فى موضوع مستقبل التعليم.

وحيث إن كل المجتمع يتكلم عن التعليم ويعانى منه ويأمل فيه، والجميع غرقى فى تفصيلاته، فرأيت أولًا أن أُعرّف مقاصدى، وثانيًا أن أربط المستقبل بالحاضر والماضى.

هناك خلط بين مفهوم التعلم والمعرفة وبين التعليم، بين الهدف والوسيلة، فالتعليم المدرسى والجامعى وسيلتنا للتعلم والحصول على المعرفة واكتساب المهارات، ولا يصح أن نخلط بين الأمرين، ولا أن نتناسى احتياج الهدف للوسيلة.

تعالوا معى لرحلة مختصرة عن تاريخ المدرسة، وكيف بدأت بادئ ذى بدء، وكيف تطورت، لنعرف إلى أين يقودنا الحوار.

قرأت كتابًا عن أعظم الشخصيات التى أثّرت فى واقع البشرية، فلم أجد فى الغالبية العظمى منهم مَن كان تلميذًا فى مدرسة بمفهومها الحالى.. فلا على بن أبى طالب بحكمته، ولا بوذا وولا كونفوشيوس، ولا الفارابى ولا ابن سينا ولا أبقراط، ولا نيوتن صاحب نظرية الجاذبية ولا تسالون مخترع الورق، وقبله المصرى الذى كتب على أوراق البردى، ولا مهندسى المعابد والأهرامات.

ولا من اخترعوا التقويم وآلات الزراعة، ولا أغلب من بدأوا الثورة الصناعية، ولا جوتنبرج مخترع المطبعة، ولا ليونارد دافنشى ولا شكسبير، وأضيف إليهم قادة الجيوش ومَن حكموا العالم مثل: يوليوس قيصر والإسكندر الأكبر وأمثالهما، وقبلهم كل الخلفاء الراشدين، وبعدهم من حكموا العالم شرقًا وغربًا ومَن غزوا وأسسوا إمبراطوريات.

ومَن كانوا أساسًا للفلسفة مثل أرسطو وأفلاطون وابن رشد وابن خلدون وغيرهم، كلهم لم يدخلوا مدرسة نظامية بمفهومنا، والتى هى الشكل والوسيلة التى ظهرت فى القرن الثامن عشر فقط، بهدف تعليم الدين وإعداد الجيوش.

نعم.. الهدف الأساسى للمدرسة كان الدعوة للدين بمفهوم رجاله، والطاعة والمهارة الحربية بمفهوم الغزو والسلطة للحكام.

إذن المدرسة بمفهومها النظامى كان- وللأسف مازال- هو إخراج مجموعات البشر الذين يؤمنون بأفكار من وضع لهم نظامهم، وينجحون إذا وافقوا على الإجابة المحددة ويرسبون إذا خالفوها. هناك صح واحد والباقى خطأ، هناك اختبار يقيس مدى توافق التلميذ مع الإجابة المحددة، مع أن كل من صنعوا قفزات التاريخ هم من خرجوا عن المعتاد وفكروا خارج الصندوق والنمطية، ورفعوا سقف خيالهم إلى أبعد مما قرر جيل سابق لهم.

يقول أينشتين، العالم الفذ، إنه كان يتعلم إلى أن دخل المدرسة، ويقول: «التعليم ليس هو تعلم الحقائق، إنما هو تدريب العقل على التفكير، ولا يمكننا حل مشكلة باستخدام نفس العقلية التى أنشأتها».

لو نظرنا إلى مدارسنا اليوم بمنطق براجماتى عملى، فلابد لنا من وقفة جادة.

المدرسة ونظامنا التعليمى مجرد وسيلة وليست الهدف فى حد ذاتها..

ماذا نريد من أطفالنا وشبابنا فى المستقبل؟ وكيف نُحدث نقلة نوعية فى أسلوب التعلم وليس اتباع نفس الوسائل التى أنتجت ما نشكو منه الآن؟.

سأعطيكم مثلًا عمليًا:
عندك مصنع، وفيه خطوط إنتاج، تخرج منها منتجات بجودة عالية، هدفها أن يكون عليها الطلب فى السوق المحلية والتصدير العالمية.. فإذا أتيت بأفضل الآلات، وأنشأت خطوط إنتاج، ووظفت ملايين العمال غير الأكفاء، وأنتجت ببطء مُنتجا لا تحتاجه السوق بجودة متدنية وخسرت رأسمالك ومواردك الخام رغم امتيازها، ولم تستطع الاستفادة من مخرجات هذا المصنع، لأن السوق لا تريده.. فأنت خاسر وستفلس لا محالة.

المدارس فى مصر هى مصانعك لإنتاج البشر الكفء، المنافس الذى يرفع قيمة وطنك، فإذا استمر المصنع فى العمل بنفس الطريقة، فستحصل على نفس الخسارة سنة بعد سنة وجيلا بعد جيل.

القليل من الصبر معى على فهم النظرية..

موادك الخام هم أطفالنا وشبابنا، وهم فى الحقيقة من أجود الأنواع ومماثلوين لأقرانهم فى بلاد العالم، وأستطيع إثبات ذلك تاريخيًا وحاضرًا.. ولكننا قررنا عبر الخمسين سنة الماضية تكرارًا أن تكون مدارسنا ومُدَرسونا ومسؤولو التعليم- وهم قوتنا البشرية فى إدارة مواردنا- هم الأقل كفاءة والأدنى أجرًا (طبعًا، توجد طفرات واستثناءات) وأصبحت خطوط إنتاج مصانعنا (أقصد ِمدارسنا) هى الأقل كفاءة.

أولادنا وشبابنا- وهم مواردنا الخام العظيمة- تدخل خطوط إنتاج لمدة 18 عامًا متتالية، وتخرج غير قادرة على الإبداع والمنافسة، ولا تتحلى بالمهارات والقيم اللازمة لذلك، ولا تحتاجها السوق، ومع ذلك نُصرّ نحن على استكمال العمل بنفس الطريقة ونفس الأسلوب!!.

هل هناك غباء وضبابية رؤية مثل هذا؟!

المصنع يخسر، ومهما جددت آلياته وغيرت آلياته بهدف إنتاج نفس المنتج، وأنفقت المليارات على تكرار بناء مصانع مشابهة، فستحصل على نفس النتيجة، بل تتضاعف الخسارة.

مثل آخر: فلتتصور أنك تريد الذهاب إلى الإسكندرية، واخترت أن تركب القطار أو السيارة المتجهة إلى أسوان، فمهما جددت فى السيارة وغيرت السائق ووسعت الطريق وأعدت رصفه عشر مرات ففى النهاية أنت ذاهب إلى حيث لا تقصد.. ستصل أسوان وليس الإسكندرية.

فهل حققت غرضك؟

هل وصلت إلى مبتغاك؟

هل مباهاتك بالإنفاق والجهد والعرق فى الوسيلة أوصلتك إلى ما تريد؟!

القضية يا سادة ليست فى المدرسة فقط لأنها وسيلة، هى مصنع للتعلم والحصول على مهارات ومعرفة يحتاجها الحاضر والمستقبل، وأرانا لا نسعى لتحقيق الهدف بل أصبحنا، كمسؤولين وأولياء أمور، غرقى فى الخلاف حول هوامش الوسائل بنفس المنهجية عامًا بعد عام.

السؤال هو: ما النقلة النوعية (paradiem shift) التى نحتاجها للوصول لهدف التعلم والحصول على المعرفة والاستعداد للمستقبل؟.. فالهدف يحتاج تحديدًا.

إن أهم المهارات التى يجب أن تحظى بالتركيز حاليًا هى: مهارات التواصل والاتصال، والقدرة على التكيف مع التغيير، والقدرة على العمل الجماعى، تضاف إليها مهارات القيادة التى يحتاجها الكثير من الوظائف على مستويات متعددة، بالإضافة إلى المهارات الرقمية واستخدام الحاسب الآلى والذكاء الاصطناعى ومعرفة لغة ثانية أو أكثر بجانب اللغة العربية.

كل ذلك يجب أن تغلفه قيم الدقة والإتقان والنزاهة واحترام المختلف، ورفع سقف الخيال والإبداع.. وهذا لا يتأتى بالمنهج، ولكن بالمعايشة داخل المؤسسة التعليمية.

هذه المهارات يحتاجها الطبيب والمهندس والمحامى والضابط والمدرس والعامل فى كافة التخصصات، فلا مكان فى العمل اليوم، وقطعًا فى المستقبل لمن لا يملكها.

الرحلة للمستقبل تبدأ بوضوح الهدف وبالاستراتيجية، ولتكن استراتيجيتنا هى تحقيق حجم حرج من النجاح بإصلاح رأسى شامل لتحقيق الهدف.. وليكن حجمنا الحرج عددى ونوعى وجغرافى، ويمكن اتباع نموذج اختيار الحجم الحرج الفعال بتحديد عدد من المدارس من كل محافظة، أو كل مدراس محافظةٍ ما.. وقد فعلت مصر ذلك فى مدارس سمّتها «المدارس التجريبية»، تحولت من تجربة إلى المدارس الحكومية للغات، ولكنها تجربة، رغم نجاحها النسبى لم تكن متكاملة الإصلاح الرأسى بمفهوم المستقبل، نوعيًا وإداريًا وتكنولوچيًا، ولكنها كانت تجربة محترمة.

وأقترح مدارس محافظات محور قناة السويس والفيوم وقنا والأقصر مثلًا.. وخلال ٥ سنوات يتغير فيها التعليم مطلقًا بمعايير قياس ومتابعة دورية بعد إعداد مسبق خارج الصندوق المعتاد لعملية جراحية معروفة الخطوات، يراها المجتمع، وتكون نموذجًا يمكن تكراره.

لماذا أتكلم عن تحقيق النجاح فى حجم حرج؟.. لأن التجارب تقول إن عمليات إصلاح التعليم كوسيلة تفشل إذا اعتمدت على التحرك بشكل واسع عرضى فى المجتمعات كثيفة السكان فى نفس الوقت باستخدام نفس الوسائل.. ومع ذلك، لا ينبغى تجاهل باقى النظام.

هناك سبع أولويات واجبة لنجاح هذا الأمر:
١- أولوية وضع موازنات مالية وإتاحتها لتحقيق الهدف بلا تنازل.

٢- إعلان إطار زمنى والالتزام به.

٣- اختيار مدقق لنوعية المديرين والمعلمين من خلال مسابقات دولية المعايير، وتحديد رواتب ذات سقف عالٍ جدًا لهم فى إطار جاد وحاد لالتزاماتهم تجاه التجربة، مع تدريب مستمر ورفع مستواهم الأكاديمى والاجتماعى.

٤- تطبيق حازم لضمان جودة الاعتماد والعمل على تنفيذها.

٥- استخدام مناهج دراسية فى اللغات والعلوم والرياضيات والتكنولوجيا والذكاء الاصطناعى تخاطب المستقبل.

٦ـ إتاحة معايشة للطلاب داخل هذه المدارس، فيها ممارسات رياضية تنافسية وتدريب على أنواع الفنون المختلفة، والرحلات داخل وخارج مصر للتعرف على تاريخ بلادهم وثقافتها عبر الزمن كجزء أساسى من منهج الدراسة، مع العناية الاجتماعية لأسرهم.

٧- الحماية التشريعية لمرحلة الإصلاح التى ستتمتع بها التجربة.
نقلا عن المصرى اليوم