سحر الجعارة
كان زاهداً، ليس لديه ما يخسره: «لا ولد.. ولا منصب ولا ثروة»، وُلد لأب يبيع الأسطوانات وهو شيخ معمم فتربى داخل «مكتبة» هى كل ثروة أسرته الفقيرة. أحدثكم عن المفكر الراحل «جمال البنا».. الذى تربى مع شقيقه «حسن»، مؤسس «جماعة الإخوان»، دون أن يمسسه جنون الدعوة وشره السلطة!. فى مذكراته، قال «جمال البنا» إنه تمرد على فكر الجماعة، فكان يرى دائماً أنه تعلم ما لم يتعلمه «حسن»، وألّف من الكتب ما عجز «حسن» عن تأليفه.. ولهذا رفض أنه يكون «ابنه الروحى».
لم يكن «جمال» متديناً فى طفولته، ولم يحفظ القرآن، كانت طفولته «مدنية».. ولهذا كان يرى «الإخوان» متخلفين فى القضايا التى تتعلق بالمرأة، والسياسة، والمسيحيين، وغيرها.
كان يعارض شقيقه دائما، وحين سمعه يردد شعار: (الموت فى سبيل الله أسمى أمانينا، الله غايتنا والقرآن دستورنا والرسول زعيمنا)، ألف كتاب «ديمقراطية جديدة» ليرد على فكر الإخوان. كان مؤمناً بالإنسان، مناضلاً وسط العمال، يرفض الحياة «البرجوازية».. و«برجوازية الكتابة» التى تعتمد على «التقليد» تحت شعار أكاديمى! وفى مذكراته المنشورة فكّ شفرة تسليح الإخوان، وتكوين جيش من خلال فرق الكشافة والجوالة، بزعم تحرير مصر من الإنجليز وتحرير فلسطين.. وكشف النقاب عن أسرار مهمة ومثيرة عن «جماعة الإخوان» ويومياته فى المعتقل.
كنت أحب هذا الرجل، أشعر كلما قابلته كم هو «مضطهد» بقدر ما هو «مستنير»، أشعر أنه فى عمر التسعين لا يزال طفلاً يعانى الحرمان من اللعب بالدراجة مثل رفاقه.. يعانى سطوة شهرة أخيه التى دفنته حياً، يشعر بالغربة فى عالم ضيق الأفق لا يجد للاجتهاد مبرراً.. عالم يسيطر عليه «بيزنس الدين».
كان -رحمه الله- يعشق الإمام «محمد عبده» الذى اعتبر وجوده دليلاً على قوة الدين الإسلامى وبساطته، لكونه مجتهداً ومبسطاً وليس عقيماً ومنفراً. لكنه تعرض للتكفير والوصم بالزندقة.. والاغتيال معنوياً!.
دعاوى تكفير «جمال البنا» وجدت فى آرائه المتعلقة بالقبلات والتدخين فى نهار رمضان سبباً كافياً لإقامة «حد الحرابة» عليه.. لكن «جمال» لم يتراجع عن أفكاره ولم يتنصل منها وقال: (يقول النص القرآنى: «الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ»، ويتضح من الآية أن هناك كبائر إثم وفواحش يجب ألا يقع فيها الإنسان، وهناك شىء آخر يسمى «اللمم»، وعندما راجعت كل تفاسير القرآن للقرطبى وابن كثير والطبرى والرازى قالوا جميعاً إنه «الضمة أو القبلة» وكل ما هو دون الزنى يقع تحت «اللمم» وتكفِّره التوبة والعمل الصالح، فبمجرد أن طرحت نتيجة بحثى واجتهادى خرجت دعاوى التكفير الكبرى ضدى).. وقد رأينا شيخ الأزهر الدكتور «أحمد الطيب» يعفو مؤخراً عن الطالبة التى احتضنها زميلها فيما يعد اعترافاً عملياً بصحة أفكار «جمال البنا».
تختلف أو تتفق مع الرجل لا يهم، فلن تحرمه «أجر الاجتهاد»، لكن من اغتالوه حياً ودفنوا ذكراه ميتاً أغلقوا «باب الاجتهاد».. ليحكموننا بأفكار تكفيرية نشرت الإرهاب فى ربوع وطننا!.
لقد كان «جمال البنا» رحمه الله، يكره عملية الفتوى والمفتى والمستفتى ويقول للمستفتى: (استفتِ قلبك واقرأ واطلع لكى تعرف).. فاقرأوا التراث الفكرى لرجل لم نعرف قيمته إن عثرتم عليه.. حتى لا يكون مات مرتين!.
نقلا الوطن