نيفين مسعد
يحدث أحيانًا أن تقرأ من باب المصادفة خبرًا صغيرًا عن أحد الموضوعات ثم إذا به يسحبك بهدوء إلى مناطق أخرى بعيدة تمامًا عن صُلب الخبر وجوهره. هكذا كان الحال عندما قرأتُ عرضًا لكتاب "رحلتي مع الحديد" الذي ألّفه كيراكوس (أو كارو) نرسيس قيومچيان، وهو العرض الذي نشره حمزة عليان في جريدة الجريدة الكويتية. أخذني أول ما أخذني في العرض ما قاله العليان عن تلك العلاقة الحميمة التي نشأَت بين كارو ومعدن الحديد والتي تطوّرت إلى الحدّ الذي أصبح معه كارو يحّب رائحة الحديد. بدا لي غريبًا أن يحّب أحدُ رائحة الحديد، ثم راجعتُ نفسي لأن الناس فيما يعشقون مذاهب، فهناك أشخاص يحبّون رائحة طلاء المنازل أو البنزين أو الأسيتون أو المنظفّات أو البارود أو النقود، وهناك كثيرون يحبّون رائحة البحر والعُشب الأخضر والفُرن البلدي والبخور والغسيل النظيف والأماكن، وفي المقابل هناك شعوب كاملة لا تطيق الروائح على اختلافها وتعاني من حساسية مفرطة من جميع أنواع الروائح النفّاذة وغير النفّاذة إلى الحدّ الذي تضطّر معه الشركات المنتجة إلى تصنيع منتجات معدومة الرائحة، والشعب الكندي يُعّد واحدًا من تلك الشعوب. هذا كله سمعتُ عنه وأعرفه وقابلتُ نماذج تعبّر عنه، أما الذي لم يصادفني من قبل فهو أن هناك مَن يستطيب رائحة الحديد، في الحقيقة لم أفكّر يومًا ما أن للحديد رائحة حتى أسأل إن كان هناك مَن يحبّ رائحته أم لا يحبّها. ومن هذا الباب جذب حكي حمزة عليان عن كتاب كارو انتباهي، وبدأتُ أتتبع علاقة كارو بالحديد فعرفتُ أنها تعود إلى طفولته عندما أرسلته أسرته إلى أحد جيرانها من سكان مدينة حلب السورية ليتعلّم صنعة تنفعه كما يفعل كل أقرانه في أثناء فترة الإجازة الصيفية، وكان هذا الجار يمتلك ورشة خراطة صغيرة لإصلاح الماكينات الزراعية، وفي الورشة وقع كارو في غرام الحديد إلى الحد الذي تصّور معه أن هذا المعدن حين يجادل معدن الذهب في أيهما أنفع للبشر وأجدى- يتيه الحديد بأنه يجمع بين الشكل الجمالي الذي نلمسه في الأسوار والأبواب المزخرفة من جهة، والارتباط الوثيق بالنهضة والتنمية والعمران البشري من جهة أخرى، بينما الذهب هو محض حلّي للتزيّن والتفاخر واكتناز القيمة. فات كارو أن هناك وجهًا قبيحًا لاستخدامات الحديد تجعله مسئولًا عن القتل والتدمير وضد العمران، فكل أسلحة الحروب يلزمها حديد.
• • •
أما مصدر دهشتي الثاني في علاقة كارو بالحديد ورائحة الحديد فكان مبعثه أصله الأرمني، فكارو هو ابن أسرة من آلاف الأسر الأرمنية التي هاجرَت إلى دول المشرق العربي فرارًا من المذابح التي نفّذها العثمانيون بحقهم في أثناء الحرب العالمية الأولى. بطبيعة الحال كان للأرمن وجود في المشرق العربي قبل هذا التاريخ، ومن ذلك أن أرمن العراق على سبيل المثال عاشوا فيه منذ ما قبل التاريخ وخرج منهم زعيم سياسي لثورة بابل الثانية هو أراخا بن خلدينا في عام ٥٢١ قبل الميلاد، لكن الطفرة العددية التي شهدها الوجود الأرمني المشرقي ارتبطَت بمطلع القرن العشرين. ومبعث الدهشة من علاقة كارو ذي الأصل الأرمني بالحديد هو ما نعلمه عن المواهب ذائعة الصيت للأرمن في مجالات بعينها، التصوير الفوتوغرافي مثلًا، وصناعة الحلَي والمشغولات الذهبية والماس، والفن بمختلف أشكاله وصنوفه، ولكل تلك المجالات روائح وعطور لا تشبه في طبيعتها رائحة الحديد. وهكذا يحفظ التاريخ المشرقي أسماء مصوّرين بارزين فرضوا موهبتهم على مجتمعاتهم حتى إذا احتاج ملوك المنطقة ورؤساؤها إلى التقاط صور رسمية أو شخصية تتميّز بكفاءة عالية اختاروا المصوّرين الأرمن. في مصر قام أرمان أرزروني بالتقاط صور لمحمد نجيب وجمال عبد الناصر والسادات على التوالي، وكان أبوه أرمناك بدوره مصوّرًا فوتوغرافيًا شهيرًا وله استوديو معروف في شارع طلعت حرب أورثه لاحقًا لابنه. وفي العراق كان أمري سليم لوسينيان هو مصوّر الملوك والرؤساء وله استديو حمل اسم أرشاك. وكان زهراب ماركاريان هو مصوّر الملك حسين لمدة عقدين كاملين. وفي مجال الذهب الذي يراه كارو أقل تفوّقًا من الحديد يوجد في بيروت حي أرمني متكامل هو برج حمود الذي تسمع داخله اللغة الأرمنية وتتذوّق فيه بسطرمة مانو الأرمني وتجد أفخر أنواع الجلود والملابس المصنوعة بيد الأرمن، أما ذوق المشغولات الذهبية فلا يُعلى عليه أبدًا، وما من لبناني تسأله من أين تشتري الذهب إلا ويجيبك من برج حمود رغم اكتظاظ أحياء بيروت الغربية والشرقية بمحلات بيع الذهب. وفي مصر فإن محل أرام في حي الكوربة هو مقصد الطبقة العليا والوسطى العليا لشراء الشبْكَة الألماظ: الخاتم والدبلة، فهو يجمع بين البضاعة الموثوقة والذوق الرفيع. أما في الفن فالأرمن موهوبون بالفطرة، ولهم قبول جماهيري بفضل خفة ظل ربّانية.. ولا تحدثني هنا عن عائلة فيروز ونيللي ولبلبة التي صنعَت جزءًا مهمًا جدًا من تاريخ الفن المصري في مجالّي التمثيل والاستعراض. ولو بحثنا أكثر سنجد أطباء أرمن برعوا في طب العيون ولاعبي كرة نافسوا مارادونا في تمكّنه من الكرة في العراق، وسنجدهم منخرطين في السياسة فلدينا في مصر نوبار باشا رئيسًا للوزراء، وشكّل أرمن لبنان حزبّي الطاشناق والهاشناق اللذين يلعبان دورًا مهمًا في المشهد السياسي اللبناني. وعلى الجملة لا أعرف بلدًا هاجر إليه الأرمن ولم يتركوا بصمة بل بصمات على تطوّره الاجتماعي الاقتصادي وحتى السياسي، فقط كانت تنقصني المعلومات عن علاقتهم بالحديد، ثم أتى كارو ليكمل معلوماتي عن هذه العلاقة ضاربًا المثل بنفسه، إذ هاجر كارو من سوريا إلى الكويت وصار من كبار رجال الصناعة فيها وحافظ في الوقت نفسه على علاقته بالقلم وسخّره للتذكير بتاريخ الأرمن والتفاعل مع تطوراتهم المعاصرة، وهكذا عاش بجسد في الكويت وروح في أرمنيا، ولم ينس أبدًا ترحيب سوريا بأسرته، فلما انتقدته المعارضة السورية لأنه انتصر للعلويين على حسابهم، ردّ بأنه انتصر للدولة السورية لا للطائفة العلوية.
• • •
لقد أحببنا هذه الروح الأرمنيّة المتوهجة التي امتزجت بأرواحنا العربية فصنع تمازجها معًا نوعًا من التعدّد الإنساني البديع، وتألّق هذا التعدّد علمًا وفنًا وصناعة ومازال بعد قادرًا على التجدّد، فها هو كيراكوس قيومجيان يفتح لنا طاقةً جديدة ويتيح لنا أن نكتشف معه رائحة الحديد.
نقلا عن الشروق