محمود العلايلى
يوافق غدا الذكرى السبعين لأول إحتفال ب23 يوليو، وعلى مر السنوات السبعين كان الإحتفال يترسخ يوما بعد يوم فى وجدان المواطنين، نتيجة الضغط الإعلامى الوقتى من ناحية، ونتيجة ما ترسخ مع الزمن مما تم تدريسه فى المدارس فى مناهج التاريخ والتربية القومية وبعض دروس اللغة العربية عن مميزات الثورة ومآثر الزعيم، وحتى بعد وفاة الرئيس جمال عبد الناصر، واعتبار بعض المصريون أن ظلال يوليو قد تكون كابوسا وينقضى بطى صفحة الزعيم وتنصيب الذى تلاه، إلا أن التاريخ كان يأبى إلا أن يعيد نفس الدائرة باختلاف الأشخاص، ليثبت كيفية تولد الفساد السياسي والمادى من رحم الإستبداد فى حتمية جينية لم يخطئها التاريخ ولا مرة فى كل زمان وأى مكان، باختلاف المؤسسات وتباين الأيديولوجيات، وهو ما حدث على مر السنوات بتنويعات يوليو المختلفة سواء بالنهج الإشتراكى الذى اتبعه ناصر بعد عشر سنوات من الحكم، وقراراته بالإستيلاء على مصانع وأراضى المواطنين ونسبها للحركة المباركة التى تحولت لثورة، أو أيام السادات الذى حاول أن ينتهج عكس ما فعله ناصر إقتصاديا على طول الخط دون دراسة فخرجت فقاعة الإنفتاح التى إنفجرت ذاتيا دون أن يكون هناك حاجة لمن يفجرها، وصولا إلى عهد مبارك الطويل الذى عانت فيه الدولة بسبب وجود عقول وخطط رأسمالية بينما كان جسد الدولة المكون من الجهاز البيروقراطى إشتراكيا عقلا وروحا، مما أدى إلى ضياع سنوات عديدة من عمر مصر المعاصرة من المشى فى المكان.
ومع إختلاف هذه التنويعات الإقتصادية إتفق القادة اليوليويين المتتابعين على النهج الشمولى للحكم، فبدأ بتشكيل التنظيمات السياسية عن طريق الدولة بدءأ بهيئة التحرير ثم الإتحاد الإشتراكى العربى، مرورا بمنبر الوسط الذى أسسه السادات والذى تحول إلى حزب مصر ثم أفضى إلى الحزب الوطنى الديمقراطى، وهى تنظيمات سياسية تم تشكيلها من القمة إلى القاعدة عكس كل ما هو معروف فى مناهج العلوم السياسية، وتجارب الدول الناجحة، حيث أدى تشكيل هذه التنظيمات إلى قتل السياسة وغلق المجال العام بحكم وجود تنظيم سياسى أوحد يحتكر السياسة بالسيطرة على أجهزة الدولة الأمنية والتنفيذية، مما لا يعطى أى فرص لأى إختلاف، والأهم أن ذلك يؤدى إلى إنعدام المسئولية لدى الجميع، فالمواطن لا يعتبر نفسه شريك بأى حال فى قرارات الدولة لأنه لم ينتخب ممثليه ولا قياداته بشكل ديمقراطى حقيقى، بينما لا يجد الفاسدون أنفسهم محكومين بأى ضوابط، حيث تتدرج الضوابط من الوازع الأخلاقى وهو بالتأكيد غائب لدى أى فاسد، ثم يليه الرادع القانونى وهو شرطا محجوب بحكم تورط الغالبية فى شبكة فساد مترابطة، وثالثا وهو ما يسمى بالمسئولية السياسية، وهو العنصر الذى لايمكن توفره لأن هؤلاء لا يدينوا بكراسيهم للمواطنين، بقدر ما يدينوا بها لمن عينهم، أو سهل لهم الإستيلاء على الكرسى وسبل الإلتصاق به.
إن الإحتفاء بيوليو بشكل قدرى، والتعامل مع تلك المرحلة داخل نطاق المحرمات غير القابلة للنقاش يؤسس لنظام لن يمكننا الخلاص منه أبدا، ولكن التعامل مع تلك المسألة بميزان المكسب والخسارة دون الوضع فى الإعتبار أى نتيجة مسبقة هو ما يمكن أن يكون بادرة أمل فى تغيير الذهنية العامة المسيطرة على الحاكمين والمحكومين، للخروج من دائرة الإبتزاز باسم الحماية من الإخوان المسلمين، حيث يتم وضع المواطنين فى ركن الإختيار بين حكم يوليو من ناحية، والإخوان من ناحية أخرى، بينما من الحكمة رفض التيارين معا لما يحملانه من أصول الحكم الشمولى، ومناهج الدكتاتورية والسلطوية، بالإضافة إلى سيطرة الأوليجاركية الحاكمة، المرتبطة بالصفوة المنتقاه من شبكات المصالح المتزاوجة مع السلطة السياسية.
ليس معنى انتقاد عصور يوليو أن الأوضاع قبلها كانت مثالية، بل كان الفقر والجهل يسود عموم المصريين، ولكن كانت التجربة الحزبية قابلة للنضوج، وكانت الحركة السياسية الحية لديها القدرة على التطور وبالتالي الإصلاح والتقدم، إلى أن أزفت نقطة اللا عودة عندما نزع الضباط الأحرار الحكم من الملك في حركة بدت ثورية، ثم تحرير البلاد من الإنجليز في خطوة وطنية عظيمة، ولكن بدلًا من تسليم حكم البلاد للمواطنين، احتلها عوضًا عن الإنجليز عساكر وضباط ناصر، وبدلًا من تطبيق الديمقراطية التي نصت عليها مبادئ ثورتهم، استعاضوا عن الحكم الملكي بأوتوقراتية مبتكرة، ليتناوبوا حكم البلاد بأنماط الخلافة والبيعة.
إن خلافة يوليو لم تكن نظام حكم بقدر ما كانت فكرة ونظامًا، فمع تبدل رأس النظام ظلت الفكرة لا تموت طالما هناك من يعمل على إحيائها ليعيش عليها، كما أن الفكرة لا تنتقل بحكم الانتماء ولا التنظيم، ولكن تنتقل في المناخ الذي يمكنها العيش فيه، وبما أنها فكرة سرية تتحدد ملامحها في الخفاء، وتخطط ممارساتها خلف الأستار، فإنها تنتقل مستترة في الظلام إلى الظلام، بأسماء مختلفة ووجوه متغيرة، لا يشترط من يحييها ولا من يتعايش عليها، ولكن المهم من يتبناها، ويغذي وحش الإقصاء والقهر والقمع الكامن داخلها، ليقدم لها القرابين من حرية الرأي المسفوكة، وحناجر الأحرار المخنوقة، وأنّات المظلومين المكتومة، سواء فى ظل إشتراكية ناصر أو إنفتاح السادات أو جمود مبارك، ليعيش الوطن تحت نير المراقبة والتشكك والخوف، لتستتب دعائم الحكم من زعيم إلى الزعيم الذى تلاه.