طارق الشناوي
مؤكد الذاكرة مع الزمن تتآكل، الأشرطة داخل الأرشيف لها عمر افتراضى لا تستطيع تجاوزه.

قبل أيام كنا نحتفل بعيد ميلاد التليفزيون العربى 21 يوليو1960، انطلق البث في نفس التوقيت من (القاهرة) و(دمشق)، مواكبا للوحدة بين مصر وسوريا، التي كانت قد أعلنت قبلها بنحو عامين.

مبنى (ماسبيرو) الذي احتضن الإذاعة والتليفزيون يشهد على العديد من التفاصيل، (كوادر) التليفزيون بدأت من الإذاعة، ولهذا ينبغى أن يتم توثيق التليفزيون، منذ عام 1934 مع انشاء الإذاعة المصرية الرسمية.

أتمنى أن يتم انشاء فريق لتقصى الحقائق، سنكتشف الكثير المسكوت عنه، حتى في البرامج الفكاهية المباشرة، إلا أنها تحمل دائما شيئا أبعد من الضحك.

هل تتذكرون (أبولمعة الأصلى)؟، إنه الأستاذ محمد أحمد المصرى الذي وصل إلى درجة وكيل أول في وزارة التربية والتعليم، والذين عاصروه أكدوا أنه كان مدرسا صارما في عقابه لأى طالب يرتكب أي خطأ، أو حتى يبتسم عندما يراه، حيث كان يؤدى في الإذاعة- وأيضا في عدد من الأفلام- ثنائيا كوميديا مع (الخواجة بيجو) فؤاد راتب، إلا أنه كان يرفض تماما اختراق الخط الفاصل بين الأستاذ والممثل.

(أبولمعة والخواجة بيجو)، كانت واحدة من أمتع فقرات البرنامج الفكاهى الإذاعى الشهير (ساعة لقلبك)، والذى أشرف عليه الإذاعى الكبير متعه الله بالصحة والعافية الأستاذ فهمى عمر، انطلق بعد ثورة 52، وقدم أشهر فنانى الكوميديا مثل فؤاد المهندس وأمين الهنيدى وعبدالمنعم مدبولى وخيرية أحمد، و(شكل) محمد يوسف و(الدكتور شديد) محمد عمر فرحات وغيرهم.

لم تكن الحكاية مجرد نكتة لاذعة، كان هناك أيضا هدف سياسى، خاصة في الثنائى (أبولمعة والخواجة بيجو)، كان المقصود تقديم شخصية ابن البلد الذكى (أبولمعة)، بينما (بيجو) معادل موضوعى للأجنبى (الذى يبيع الميه في حارة السقايين)، وكلما قال بيجو حكاية على أساس أنها تقع في إطار اللامعقول يرد عليه (أبولمعة) بأحسن منها قائلا: (حصلت يا خواجة حصلت)، ويذكر له قصة أكثر سخرية متجاوزة السقف الذي وصل إليه (بيجو). مثلا يقول (بيجو) إن في (بلاد بره) يضعون العجل من ناحية يخرج من الناحية الأخرى (علب بوليبيف)، يرد عليه أبولمعة قائلا: (فى بلاد جوه يا خواجة ندخل علب البوليبيف من ناحية تخرج من الناحية الأخرى عجول).

أدركت القيادة السياسية ممثلة في جمال عبدالناصر، أن الرسالة السياسية حتى تصل بقوة ينبغى أن تتم إحاطتها بحالة من الفكاهة، المستمع ينبغى أولا أن تكسبه إلى صفك، عبدالناصر كان مستمعا جيدا لما تبثه الإذاعة، وبعد دخول التليفزيون صار أيضا متابعا جيدا يحرص على كتابة ملاحظاته، ويتدخل أحيانا بطريقة مباشرة لحسم الخلافات، وقال لى الإذاعى القدير وجدى الحكيم إنه في واحدة من المداعبات شارك هو أيضا فيها، كانت الصحافة بين الحين والآخر تنشر خبرا عن تحديد يوم لقيام الساعة، وتصادف أننا كنا في بداية شهر إبريل، وحرص وجدى قبل إذاعة الحلقة التأكيد والتذكير بأن اليوم هو أول إبريل ولا تصدقوا كل ما يقال لكم في هذا اليوم.

أعلن أبولمعة والخواجة بيجو أن موعد القيامة غدا، وعلى المستمعين الاستعداد لمغادرة الحياة، وقبلها نصحهم بالتكفير عن ذنوبهم، من الواضح أن الناس صدقت، وأصابهم الهلع، وقررت الدولة تقديمهم جميعا للمحاكمة بتهمة بث الرعب بين المواطنين، ولم ينقذ الموقف سوى الإذاعى أحمد سعيد الذي كانت لديه صلاحية تؤهله للتواصل المباشر مع جمال عبدالناصر، الذي ضحك وطلب من أحمد سعيد ألا يكرروها، وأمر بإيقاف التحقيق مع أبولمعة والخواجة بيجو. ألا تستحق هذه الحكاية وغيرها التدقيق والتوثيق، قبل أن تتبخر الحقائق!!.
نقلا عن المصرى اليوم