د. سامح فوزى
تُضاف الخبرات التى تمتلكها المجتمعات إلى رأسمالها المادى والبشري. وغياب أو ضعف تراكم الخبرات يجعلها دائمًا فى المربع رقم واحد. هناك بالتأكيد كفاءات وخبرات مهمة فى مؤسسات الدولة، خاصة التى تعمل فى مجالات فنية. وهناك أيضا تجارب ملهمة يقوم بها الناس فى الريف والحضر تعانى من ضعف التوثيق. وتظل الخبرات المتاحة فى المجتمع، خاصة أمام الشباب محدودة. التراكم ضرورة لتطور المجتمع، وتحقيق سلامته النفسية. نتذكر مقولة الشاعر والفيلسوف الأمريكى هنرى ديفيد ثورو (1817-1862) خطوة واحدة لن تٌعبد طريقًا على الأرض، كما أن فكرة واحدة لن تٌغير شيئًا فى العقل، تتابع الخطوات ستُعبدالطريق، كما أن الكثير من التفكير سيصنع المستحيل الذى سيغير حياتنا. لا أظن أن خبرات الحياة، سواء العملية والشخصية، توثق، وتتاح بصورة كافية رغم كل مظاهر الصخب الالكترونى الذى نعيشه. وأعنى بخبرات الحياة، أى رأسمال الخبرات، أن يقدم أصحاب التجارب الكبرى، الفكرية والمهنية، خلاصة تجربتهم للأجيال الشابة، وفى الوقت نفسه يسعى العاملون فى حقل التنمية لتوثيق التجارب الإبداعية التى تحدث على أرض الواقع، ويستنطقون أبطالها الذين عادة يكونون خارج دائرة الضوء، رغم أن لديهم ما يقولونه من خبرات الحياة. أتذكر روبرت تشامبرز، الأستاذ البريطانى رفيع المستوى، الذى يبلغ من العمر الآن 93 عامًا، ويُعد واحدًا من أهم من درسوا التنمية فى العالم، وظل فى كل كتاباته ومحاضراته الثرية يقدم خبرات مهمة فى التنمية، ولا تزال تتردد مقولته الشهيرة ضع الأخير أولا فى العديد من دراسات التنمية، ويعنى بذلك أن يكون الفقراء والمهمشون فى قلب تصميم السياسات العامة.

يحتاج المجتمع، خاصة الأجيال الشابة، إلى خبرات موثقة، ودروس مستفادة تثرى مخزون الخبرات لديهم. ليس المقصود هو المذكرات الشخصية، أو الروايات الذاتية، التى يحتاج أصحابها إلى قدر كبير من التجرد، ومحاسبة النفس، والابتعاد عن التجمل والكذب، والتخلص من المرارة الشخصية وتصفية الحسابات. قليلون الذين يستطيعون ذلك. ولكن ما أعنيه هو الخبرات الإنسانية التى تُقدم بصورة مجردة، وتمثل عمق التجربة، والقدرة على مواجهة تحديات الحياة. أظن أن قطاعا عريضا من المجتمع يبحث عن ذلك بشغف، والدليل هو الإقبال الواسع على مواقع التواصل الاجتماعى التى تتحدث عن المشكلات الأسرية، ومواجهة تحديات الحياة، والنصائح النفسية.

والسؤال المطروح: لماذا هناك فائض كلام فى المجتمع، بينما هناك محدودية فى توثيق الخبرات، وعرضها على الجمهور العام؟

هناك عدة أسباب أهمها تراجع تأثير المؤسسات التى تمثل عادة مخزن الخبرات مثل الأسرة، والمؤسسة الدينية، والمدرسة، وغيرها، أمام تصاعد ثقل الفضاء الالكترونى، الذى يغلب عليه المساجلات، والفضفضة، والسخرية، والتدوينات الشخصية. ويغلب أيضا على التنشئة الوظيفية فى المؤسسات البيروقراطية اختلاط الخبرات المهنية مع أنماط سلبية للسلوك مثل الاستعلاء على الآخرين، وعدم تقدير قيمة الوقت، والرغبة فى الحصول على منافع خاصة، وغيرها. ومن ضمن الأسباب التى تؤدى إلى ضعف انتقال الخبرات بالمجتمع غياب فكر التوثيق فى كثير من مناحى الحياة، حيث لا نميل عادة إلى استخدام أساليب منظمة فى توثيق التجارب والمشروعات والمبادرات، وبيان ما تحقق من نتائج، وأوجه القصور فى العمل، بما يسمح باستدعاء المعرفة حين تكون هناك ضرورة لذلك، ولا نضطر إلى البدء دائما من نقطة الصفر. ويأتى فى قلب الأسباب التى تعيق نقل الخبرات هو ظاهرة التحرش الجيلى التى تشهدها مجالات عديدة، سواء فى سياق الصراع على الفرص التى باتت محدودة، أو شعور جيل الكبار بمزاحمة الشباب لهم، وينظرون لأنفسهم بأنهم لم يحصلوا على حظوظ كافية فى الحياة. ومن علامات هذا الصراع الرغبة فى احتكار المعرفة، وعدم إشراك الآخرين فيها، والنظر إلى الأجيال الشابة بوصفهم امتدادًا شخصيًا أو تابعين لمن هم أكبر منهم سنًا. وقد كان تداول الخبرات موضوع حلقة نقاشية عٌقدت فى إطار معرض مكتبة الإسكندرية الدولى للكتاب امتدت فى ثلاث جلسات بعنوان «جوائز ومبدعون» تحدث فيها عدد من المثقفين الذين حصدوا جوائز الدولة هذا العام عن دروس مستفادة وخبرات من واقع مسيرتهم. اتسم الحديث بالصراحة، والتقدير الموضوعى للذات دون مبالغة أو افتعال، وخلص إلى عدد من الخبرات سعدت برصدها بين ثنايا الحديث منها التراكم فى الإبداع، والإصرار على النجاح، وأهمية تنوع الروافد الفكرية فى تكوين الإنسان بعيدًا عن الثقافة الأحادية، والتطلع إلى المستقبل دون يأس أو مغالاة، وأن يحافظ الإنسان على فضائه النفسى، وخصوصيته، وذاته المتفردة.. وجميعا خبرات تحتاج الأجيال الشابة إلى التعرف عليها.
نقلا عن الاهرام