د. فؤاد إبراهيم
   ما هى أسباب بُعد البعض من شعبنا فى المهجر عن الكنيسة، أو بالأحرى عدم رغبتهم فى الذهاب إلى الكنيسة؟

    يبدو أن السبب الرئيسى هو الملل الناتج عن عدم المقدرة على فهم اللغة العربية واللغة القبطية. وغالبا يؤدى هذا إلى تخلّف أُسر بأكملها عن الحضور إلى الكنيسة. وقد أثبتت دراسات أجراها كاتب هذه الاسطر عن الأقباط  فى أمريكا والمانيا ، أنه فى كثير من الأحيان، يقبل الأطفال مرافقة والديهم إلى الكنيسة لسنوات عديدة. ولكنهم حالما يصلون إلى سن المراهقة، وخاصة بعد الحصول على رخصة قيادة السيارات، فى سن 18 سنة، يمتنع غالبيتهم عن الذهاب إلى الكنيسة. فيذهب الوالدان وحدهما إليها. وبعد فترة من الزمن يُفضّل الوالدان البقاء مع بناتهما وأبنائهما فى المنزل يوم الأحد.
   عدم المقدرة على فهم ما يقال فى الكنيسة كثيرا ما يتسبب فى أن يأتى المصلّون إلى الكنيسة متأخرين، فقط عند وقت قراءة الإنجيل. وهذه ظاهرة مُؤسفة كثيرا ما يعلق عليها الألمان الذين يحضرون قداساتنا، فهم يرون كنيسة شبه فارغة فى بداية الصلاة. ثم يتوافد معظم المصلّين بعد ساعة أو أكثر من البداية. هذه ظاهرة مؤسفة حقا. ولكن لو عُرف السبب لبطُل العجب.

   إن معالجة مشكلة عدم فهم اللغة فى الكنيسة ليست سهلة على الإطلاق. بل يتطلب حلّها عملا شاقا منا جميعا لسنوات طويلة.
 وهناك إعتقاد خاطئ سائد بأن حل المشكلة سيأتى تلقائيا مع الوقت. ربما كان هذا صحيحا إذا انتظرنا جيلا أو جيلين. ولكن ليس لدينا وقت للإنتظار، لأن تسرّب أولادنا وأحفادنا من الكنيسة يحدث اسرع مما نتخيّل. ومن منّا يريد أن يُضحّى بجيل أو بجيلين من أبنائه واحفاده؟

 وهناك من يدعو إلى الحفاظ على لغة الأم كتراث ثقافى ثمين. ولكن أيهما أهم: التراث اللغوى واللحن والموسيقى، أم ملكوت السموات، وخلاص النفوس؟ ويُحاجى البعض مِنّا ان الأجانب معجبين جدا بالحاننا القبطية وينصحونا بالاحتفاظ بها. ولكن ما هو الاهم؟: ان نحتفظ باجيالنا االقادمة فى حضن الكنيسة أم نُرضى الأجانب الذين ينظرون إلينا كمتحف آثار موسيقية وحقلا للدراسة الاكاديمية؟!
ويُحاجى البعض بضرورة الحفاظ على الهوية القبطية كما لو كانت شيئا مقدسا، و كما لو كانت جزء لا يتجزأ من المسيحية. ونسوا أن الهوية عملية دائمة التغير وليست "ماركة مسجلة" على جبين الانسان. فالقبطى فى اوروبا او استراليا اوامريكا يكتسب هوية جديدة دون ان يفقد مسيحيته. وكثيرا ما سمعتُ شبابنا فى امريكا يقول: أنا فخور بكونى أمريكى.
“I am proud to be American!”
 
 وللأسف فإن كثيرين من الشعب القبطى فى ألمانيا لا يريدون إستخدام اللغة الألمانية فى الصلوات، قائلين انهم يجدون تعزية اكبر فى الصلاة باللغتين العربية والقبطية. وهم بذلك يُفضّلون مصلحتهم على مصلحة أولادهم وأحفادهم. أمّا عن مسألة "التعزية" فهى مجرّد إعتياد، فاولادهم وزوجاتهم الالمانيات لا يجدون أيضا ما يُسمّى بالتعزية إذا صلّوا بالعربية والقبطية. وقد تكون "التعزية" زائفة، لانه كيف أصف صلاة بلغة قبطية لا افهمها بانها مّعزّية!؟ ألم يقل لنا الكتاب المقدس: "رتّلوا بفهم" (مز ،7،47 (7،46)). والقديس بولس الرسول قال إنه يفضّل أن يقول خمس كلمات بفهم أفضل من عشرة آلاف بغير فهم (1كو14: 19). ورغم ذلك نُصرّ نحن على الترتيل بغير فهم وندّعى أننا فى قمّة "التعزية"! إسال نفسك مرّة: كام واحد فى الكنيسية فاهم معنى مفردات كلمات أبسط الالحان القبطية مثل: "خين إفران إمفيوت نيم إبشيري نيم بي إبنيفما إثؤواف..."؟ أعتقد لا تزيد نسبتهم عن 10%. ولو أدخلت فى الحسبان الغائبين عن الحضور  لقلّت النسبة إلى 5%.

أنا واحد من الناس الضعفاء الذين لا يفهمون كل كلمة من كلمات لحن "ذوكساباترى..." لانى ضعيف فى اللغة القبطية. وبعد أن قضيت عشرات السنين أعانى من هذه المشكلة قررت ان أتلو الترجمة العربية "المجد للآب والإبن ..." أو ألالمانية، بدلا من "ذوكساباترى..."، حتى لا أكن مجرد بغبغان .  وللأسف الشديد لا يوجد لدينا لحن للنص العربى، مما يفقده كثيرا من جمال اللحن القبطى.

يجب علينا ترجمة الألحان العربية والقبطية إلى اللغة الألمانية بواسطة متخصصين فى ترجمة النصوص الكنسّية.
حقا قد بذل نيافة الأنبا ميشائيل مجهودا عظيما، يستحق كل ثناء، فى ترجمة الليتورجيات القبطية الى اللغة الالمانية، ونشرها فى دار نشر دير الانبا انطونيوس بكرفلباخ. ولكن للأسف لم يتم عمل الحان ألمانية لها حتى الآن، ولجأ الملحّنون إلى ترتيل النص الألمانى بلحن عربى او قبطى فصار نشاذا، لا تستسيغه الأذن الالمانية. إن تلحين نص ألمانى بطريقة اللحن المصرى يكون فى درجة نشاذه كما لوترجمنا ترتيلة
„Stille Nacht, heilige Nacht
 “ ولحنّاها بلحن "خين إفران"!
 وطبعا لايشعر المُرتل القبطى بان كلامه الألمانى المُلحًن بمزيج من الحان قبطية وعربية غير مُستساغ عند الالمان، الذين بدورهم لا يفصحون عن ذلك لانهم مؤدَبون!

   الكنيسة الكارزة خارج وطنها الاصلى يجب عليها ان تنتج "تركيبة" جديدة  من اللحن واللغة حتى لا تكون الحانها نشاذا فى بلد المهجر. ولكى يتوصل خبراء الموسيقى والالحان من ابنائنا فى المانيا الى طريقة تلحين مقبولة وغير نشاذ، لا بد من الرجوع الى الالحان الكنسيّة الالمانية التى تُستخدم فى الكنائس الكاثوليكية وبعض الكنائس الانجيلية. وكثير من هذه الالحان الًفها موسيقيون المان مشهورون. ونصوص هذه التراتيل ماخوذة من سفر المزامير مثل تراتيلنا المحببه اثناء التوزيع (التناول)، ومنها على سبيل المثال التراتيل الاتية:
Lobt Gott in seinem Heiligtum, lobt ihn in seiner mächtigen Feste! - YouTube
HALLELUJAH!!LOBET GOTT IN SEINEM HEILIGTUM!! - YouTube

Lobet den Herren - Traditionelle Kirchenlieder (Lyrics) - YouTube
Jubelt und freut euch - YouTube
Grosser Gott wir loben Dich - YouTube

   هذا مشروع ربما يتطلب عدة سنوات لتنفيذه. ولكن اذا وُجدت الإرادة وُجد الطريق. واخشى ان الإرادة غير موجودة أصلاً. والدليل على ذلك انه حتى الآن لا توجد الحان باللغة العربية فى مصر ذاتها لألحان أساسية فى القداسات مثل الحان "الهيتنيات" "وذكساباترى..." و"آجيوس اوثيؤس.."و "خين افران"... و شيرينى ماريا". هذا رغم أن الأقباط قد توقفوا عن فهم اللغة القبطية منذ حوالى 800 عام، مما يجعل أهلنا البسطاء الفلاحين يرتلون هذه الالحان القبطية دون أن يفهموا معانى كلماتها. ورغم هذا لم يحاول أحد من المسؤلين الكنسيين الغيورين على رعاية الشعب فى الثمنمائة سنة الأخيرة أن يحل هذه المشكلة، ناهيك عن مجرد الإحساس بان هناك مشكلة على الإطلاق!
 
 ويبدو ان هذا لا يثير قلقا لأى عامل فى مجال الخدمة الرعوية والكرازة حاليا، لا فى مصر ولا فى خارج مصر. فمن أين نأمل ان يحدث إصلاح هذا الوضع من جانب النخبة القائمة المسؤلة ؟
 لا أعتقد أن النُخبة الحالية من الشمامسة التى تقود الشعب فى الصلوات والتسابيح الليتورجية لديها رغبة فى مراجعة اسلوبها رغم كفاءتها فى اللغة الألمانية، إما لأنها خائفة من هجوم حرّاس السلف والتقليد بالكنيسة وإما لانها تخشى ان تفقد ميزتها النوعية وسلطتها النابعة من المقدرة فى اللغة القبطية وإجادة الحانها. وطالما انه لم تتكون حتى الان نُخبة جديدة لديها الرغبة والمقدرة والجرأة على تقديم نظاما بديلا مقبولا، فلا أمل يمكن ان يُرجى فى عملية تجديدية من الداخل مثل التى قام بها القديس حبيب جرجس عندما أسس مدارس الأحد فى مصر فى على غرار حركة مدارس الأحد التى تاسست فى إنجلترا عام 1751.

كبداية، من السهل جدا استخدام اللغة الالمانية فى الأجزاء التى لا تحتاج إلى تلحين خاص، مثل أجزاء كثيرة من القداس الإلهى وصلوات السواعى، والقراءات، وقانون الإيمان، والصلاة الربانية، ومردات شماس الهيكل.
ولا يكفى نقدّم ترجمة معروضة على مونيتور، لانها يمكن قراءتها فقط من الصفوف الامامية، وكذلك مرهقة جدا فى متابعتها فى الوقت الذى يكون انتباه المُصلّى مركزا على المذبح والكاهن. هل جرّبت مرّة ان تشاهد فيلم صينى مدته 3 ساعات بمجرد قراءة الترجمة تحت الصور المتحرّكة؟ هذا هو شعور حفيدى الألمانى فى كنيستنا!

نحن فى أشد الحاجة إلى مرحلة تعليمية جادة، وفق جدول زمنى محكم، إذا أردنا أن نقدم للجيل الجديد قداسا وصلوات كنسية بلغة ألمانية سليمة ومستساغة قبل فوات الفرصة. وللعلم فان الكنيسة القبطية فى افريقيا تستخدم اللغات والموسيقى الافريقية وكذلك الطبول الافريقية فى قداساتنا منذ نصف قرن!
 يبدو أن العقبة الكبرى أمام تحقيق هذا الهدف ليست فى مجرد عدم الكفاءة فى اللغة الألمانية، ولكن فى الجمود الفكرى والتشبث بالماضى وعدم الإقتناع بأهمية خدمة الفئة العريضة من الشعب، الضعيفة ليس فى اللغة القبطية فقط بل ايضا فى اللغة العربية الفصحى، وعدم إدراك أن هناك مشكلة على الإطلاق. والدليل على ذلك أننا كثيرا ما نجد أمامنا شمامسة مولودين فى المانيا ويجيدون اللغة الألمانية إجادة تامة، ورغم ذلك لا يستخدمونها فى مردات القداس الإلهى، حتى ولو إستخدم الكاهن نفسه اللغة ألألمانية، ورغم رجاؤنا المتكرر بضرورة إستخدامها. وأخشى ان يكون السبب هو حب السلطة والتباهى بإظهار مواهب ومهارات لا يملكها عامة الشعب. فالملاحظ دائما انه كلما علا صوت كورال الشمامسة والمعلم فى القداس كلما انخفض صوت الشعب وتلاشى. مع العلم بأن كورال الشمامسة والمعلم ليس لهم ذكر في الخولاجى المقدس على الإطلاق. المذكور فيه هي مردات الشعب وليست مردات المعلم وكورال الشمامسة.

 
نيافة الانبا انطونيوس مرقس، مطران الكنيسة القبطية فى أفريقيا يلقى العظة فى كنيسة قبطية فى كينيا فى عام 1981. لاحظ التارات الموسيقية المصنوعة من العلب الصفيح القديمة التى يستعملها الاطفال الكينيين الاقباط كآلات موسيقية فى التراتيل بلغة قبيلتهم اثناء التوزيع (التناول). قمت بتصوير هذه الصورة منذ 42 سنة. وأدرك متحسّراً انهم كانوا حينئذٍ متقدمين عنّا ونحن الآن فى عام 2023 ما زلنا نكافح ضد التقليديين الذين يرفضون أى تجديد.

أذكر مرّة أن سيدة ألمانية قالت لكاهن أنها لا تستطيع فهم القداس فقال لها ربما مازحاً: "إتعلمى عربى!" ولكنها لم تدرك انه ربما كان يمزح، وتعجبت كثيرا. أن الكل يعلم ان اللغة العربية صعبة جدا للأوربيين. وأيّة لغة عربية يجب ان تتعلمها هذه السيدة؟: اللغة العاميّة التى تتفاهم بها مع زوجها المصرى؟ أم اللغة الفصحى التى تُرجم ليها الخولاجى والكتاب المقدس فى القرن التاسع عشر؟ وهى تختلف كثيرا عن اللغة العامية، ليس فى الكلمات فقط ولكن أيضا فى النطق والقواعد. لماذا نُحمّل الشعب الذى نكرّزه بالمسيح هذا الحمل الثقيل، دون أن نمد إصبعا للمساعدة؟
أليس من واجب الكارز أن يتعلم لغة المُكرّزين ولايجبرهم على تعلّم لغته؟! أليس للوظيفة الرعوية فى بلاد المهجر مؤهلات لغوية؟ أو على الأقل الإلتزام بتعلم اللغة وإجادتها فى خلال الإقامة بالبلد لمدة 4 سنوات مثلا؟
ولا شك إن الرهبان الاقباط الذين بشّروا قديما فى أيرلندا،  وكتيبة القديس موريس التى بشرت  فى سويسرا والمانيا،  والقديس أثناسيوس الرسولى الذى بشر فى المانيا وايطاليا فى القرن الرابع الميلادى، كل هؤلاء لم يستعملو اللغة القبطية فى التبشير. كل أسلافنا القديسون بشّروا الاوروبيين بلغات تلك الشعوب آنذاك وليس باللغة القبطية. وها نحن الآن فى القرن الواحد والعشرين، بكل التكنولوجيا المتاحة لنا، لا نستطيع، ولا نريد، ان نتعلم لغة الذين نبشرهم باسم ربنا يسوع المسيح!! ونصر على تقديم 90% من صلواتنا قدّاساتنا وعظاتنا لأولادنا وأحفادنا الألمان باللغة القبطية والعربية الفصحى التى لا يفهموها!

الموضوع خطير جداً ولا حياة لمن ينادى؟!!