أحمد الخميسي  
عندما احتفلت مصر في 26 يوليو الحالي بالذكرى 67 لتأميم القناة، كانت تحتفل ضمنا بباقة ضخمة من ألوان الابداع الفني، لأن الفن المصري لم ينشغل بحدث تاريخي مثلما انشغل بقناة السويس، ومثلما دفق فيها المبدعون أجمل ما لديهم، فقد كانت القناة ولا زالت علامة كبرى في تاريخ النضال الوطني ومقدمة افضت لبناء صرح آخر جبار هو السد العالي، كما انها ارتبطت بكفاح الشعب المصري البطولي لصد العدوان الثلاثي الذي أعقب تأميمها. وفي القصة القصيرة سنرى القناة حاضرة عند العبقري يوسف إدريس في قصته" هي.. هي لعبة؟ " من مجموعته " البطل" عام 1957. في الشعر دفق الأدب موجه بقوة بقصائد فؤاد حداد البديعة خاصة " قال لك ح نبني السد"، وقصائد صلاح جاهين"ياحمام البر سقف..طير وهفهف"، وكتب أمل دنقل عن تاريخ حفر القناة المؤلم في قصيدته " أوجيني"، ولم يترك شاعر تقريبا ذلك الحدث من دون إشارة. في مجال الأغنية ظهرت القناة بأصوات كبار المطربين، غنت فايدة كامل:" دع سمائي فسمائي محرقة..دع قنالي فمياهي مغرقة" للشاعر كمال عبد الحليم، وشدت أم كلثوم بكلمات صلاح جاهين:" ما أحلاك يا مصري وأنت على الدفة.. والنصرة عاملة للقناة زفة "، وأبدع محمد عبد المطلب في غنوته:"يا سايق الغليون عدي القنال عدي.. ده اللي فحت بحر القنال جدي"، وقدم عبد الحليم حافظ عام 1960 غنوة حكاية شعب التي قال فيها:" وكانت الصرخة القوية من الميدان في اسكندرية.. صرخة أطلقها جمال.. احنا أممنا القنال"، وغنى محمد قنديل "يا ريس البحرية يا مصري..على القنال سهران". في المسرح الغنائي برزت القناة موضوعا لأوبريت     " مهر العروسة" تأليف وأشعار عبد الرحمن الخميسي وتلحين بليغ حمدي، غناء شريفة فاضل وكنعان وصفي، واخراج سعد أردش، وقد عرضت أوائل 1964 في دار الأوبرا. ولم يتخلف الفن السينمائي عن المعركة فقدم فيلم   " بورسعيد" عام 1957 إنتاج فريد شوقي بمشاركة هدى سلطان وليلى فوزي. الأكثر من ذلك أن حفر القناة ألهم في حينه حتى شعراء عالميين أمثال الشاعر الأمريكي" والت وايتمان" وغيره.

أخيرا أشير هنا إلى حقيقة ربما لا يعرفها البعض، وهي أن تمثال الحرية الشهير الذي يزين مدخل نيويورك، كان معدا في الأساس ليوضع في مدخل قناة السويس! ذلك أن الامبراطورة "أوجيني" التي حضرت الاحتفال بافتتاح القناة في نوفمبر 1869 عادت إلي فرنسا مبهورة بكرم الخديو اسماعيل، وأرادت وقد غمرها الامتنان أن ترد للخديو بعضا من حفاوته فكلفت النحات الفرنسي فريدريك بارتولدي بأن يصنع تمثالا لوضعه في مدخل قناة السويس يمثل فلاحة مصرية بغطاء رأس فرعوني وذراعها مرفوعة تحمل شعلة الحرية. وبالفعل انتهى النحات من عمل التمثال وسمي"مصر تنير آسيا "، لكن حربا نشبت بين فرنسا وبروسيا فعطلت وصول التمثال إلي مصر! وانتهزت"رابطة الصداقة الفرنسية الأمريكية" الفرصة وطلبت من النحات أن يدخل بعض التعديلات على التمثال لإرساله إلي أمريكا مادام أنه لن يصل إلى مصر في كل الأحوال! وبالفعل أدخل فريدريك بارتولدي تعديلات على التمثال وأضاف زيادة إلي طوله ونقل الشعلة من يد إلي أخرى وغير الرداء بحيث لا يشبه أردية المصريات، وتم إرسال التمثال إلي أمريكا ليستقر في مدخل نيويورك مطلا على المحيط الأطلنطي مشتهرا في العالم باسم " تمثال الحرية".

في الذكرى السابعة والستين لتأميم القناة ، نحتفل بأنفسنا، وبالفن، وبكفاح الشعب المصري، الذي طالما أثبت للعالم أنه قادر على استرداد حقوقه.
نقلا عن الدستور