القمص أنجيلوس جرجس
رحل البابا شنودة عن عالمنا في السابع عشر من مارس عام 2012م، وكل عام حين يأتي هذا اليوم يمر أمام عيوننا شريط من الذكريات. فقد كان علامة هامة في حياتنا كلنا ننتظر كلماته فنتعلم، نذهب إليه ونلقي عنده همومنا فيحملها معنا. كنا نشعر بحبه وتقواه والصدق في كل حياته. وبالرغم من إننا كنا نعرف في السنوات الأخيرة أن يوم رحيله عن الأرض قد اقترب لكننا لم نتخيل حياتنا بدونه.
فقد كان البابا شنودة رمزاً هاماً في حياتنا جميعاً وقلت له يوماً: "نحن سعداء لأننا ولدنا في العصر الذي فيه قداستك معلماً وأباً". وهذه حقيقة كنا نرى فيه وصايا الإنجيل معاشة، والمحبة حقيقة، والفكر جامعة. وبرغم مكانته العظيمة لكنه كان يحيا حياة بسيطة في كل شيء، يقضي نصف الأسبوع في الدير ونصفه الأخر بين القاهرة والإسكندرية معلماً ونوراً لا يخبو وصوتاً قوياً لا يخشى في الحق أحداً.
وفي حديثه معي شخصياً كان يحكي عن أسعد سنوات عمره حين أختار أن يترك كل شيء ويعيش في مغارة في الجبل متوحداً لا يسمع إلا صوت اللـه ولا يكلم أحداً إلا هو. فقد عاش أربع سنوات من 1956م حتى 1960م في مغارة بالجبل طولها ثلاثة أمتار ونصف وعرضها متراً واحداً. وكان شاعراً عظيماً وكتب قصيدة يصف بها حياته في الصحراء عابداً ومتوحداً: "تركت مفاتن الدنيا ولم أحفل بناديها، ورحت أجر ترحالي بعيداً عن ملاهيها، خلى القلب لا أهفو لشيء من أمانيها، نزيه السمع لا أصغي إلى ضوضاء أهليها، أطوف هاهنا وحدي سعيداً في بواديها، بقيثاري ومزماري وألحان أغنيها، وساعات مقدسة خلوت بخالقي فيها، غريباً عشت في الدنيا نزيلاً مثل آبائي".
وحين صار قداسته بابا الكنيسة القبطية عام 1971م، فقد كان مثالاً حياً أمام عيوننا في كل شيء يجمع بين روحانية العابد المتوحد وذهن المفكر الفيلسوف، يجمع بين المثقف والشاعر والعميق ببساطة الكلام. يجمع بين القوة والحزم والحب والحنو على كل محتاج، يجمع بين رجل الدين واللاهوتي العظيم، وبين الوطني العاشق لمصر وصاحب المواقف الوطنية العظيمة.
ولا أنسى في أحداث الزاوية الحمراء حين حُرقت كنيسة وذُبح كاهن وسقط شهداء وكنا في قمة الضيق ونحن شباب صغير، وذهبنا بالآلاف في اجتماع قداسة البابا وكانت الجموع تهتف للبابا شنودة هتاف هز أرجاء الكاتدرائية، أما هو فقال لنا: "لا تخافوا كل أمورنا موضوعة أمام اللـه". ووعظ حينها عظة لا أزال أتذكرها كانت "اللـه يعمل في هدوء"، فقد كان هو صمام الأمان الذي حفظ مصر من فتنة طائفية، فقد كان يمكنه أن يقول كلمات أخرى تُخرج الآلاف إلى الشوارع وهي غاضبة ويحدث ما حدث في بلدان كثيرة حارب أهلها بعضهم البعض.
وحين صدر قرار الرئيس السادات في سبتمبر 1981م كان يمكنه أيضاً أن يشعل فتيل الفتنة ولكنه ذهب إلى الدير وظل هناك خمسة سنوات. وفي حديث شخصي معه قلت له: "ألم تكن متضايقاً طيلة هذه السنوات وأنت في الدير محددة إقامة قداستك؟"، فرد عليّ كعادته ببلاغة وعمق وقال لي: "الموضوع له ثلاثة جوانب؛ الأولى شخصية وهي إنني راهب والدير هو مكاني الذي ارتاح فيه. والجانب الآخر هو إنني بابا الكنيسة بأمر إلهي وليس بشري وهذا لم يتغير وكنت أدير الكنيسة من الدير. أما الجانب الثالث فهو تأثير هذا على مصر وهو ما كنت قلقاً عليه فقد كانت تلك الفترة يمكنها أن تعصف بالبلد وهذا ما حدث وقُتل السادات بعد أيام من قراره في أكتوبر 1981م".
ويقول الأستاذ مكرم محمد أحمد في حديث له مع قداسة البابا شنودة عام 1984م إنه بعد أن أنهى حواره أشار لقداسة البابا أن يقول كلمتين للرئيس مبارك يتملقه علّه يقوم بإلغاء قرار التحفظ، فرد البابا بحدة وقال: "البابا لا يتملق الرؤساء عشت حياتي في الدير ولا أمانع أن أعيش فيه بقية حياتي".
وقد قال في حبه لمصر: "جعلتك يا مصر في مهجتي، وأهواكِ يا مصر عمق الهوى، إذ غبت عنك ولو لفترة، أذوب حنينا وأقاسي النوى، إذا ما عطشت إلى الحب يوماً بحبك يا مصر قلبي أرتوى، نوى الكل رفعك فوق الرؤوس وحقاً لكل أمرئ كل ما نوى".
وحين دعا مركز ابن خلدون قداسة البابا للاشتراك في مؤتمر الأقليات عام 1994م في القاهرة رفض البابا الاشتراك فيه وقال: "إن شعب مصر أشبه بقطعة قماش نسيجها هم الأقباط والمسلمون لا يمكن فصلها". وهذا بجانب مساندته للقضية الفلسطينية وقد لُقب بابا العرب لمواقفه الشجاعة.
وقال عنه نجيب محفوظ: "البابا شنودة دائماً رجلاً صلباً متفائلاً، شديد الذكاء، مصرياً عميق الأصل، عربي الوجدان والتوجهات، إنساني النزعة، عالمي الأفق".
وكتب عنه الأستاذ مصطفي أمين: "الظلم يقوي المظلوم ولا يضعفه، فالمطارق التي هوت على البابا شنودة لم تهدمه بل جعلته أكثر ثباتاً ومكانة في قلوب الأقباط، ولقد وقفنا بجانب بطريرك الأقباط ونحن مسلمون ومتمسكون بعقيدتنا ولكننا في الوقت نفسه نؤمن بحرية العقيدة فلا إكراه في الدين، ونرى قوة مصر الحقيقية في الوحدة الوطنية الكاملة بين الأقباط والمسلمون".
وكتب الأستاذ محمد حسنين هيكل: "البابا شنودة كما تظهر الأحداث كان أذكى مما قدر الآخرون، كما إنه كان أقرب إلى الالتزام بمقادير مصر مما ظن هؤلاء الذين يخططون لشيء أخر". وكتبت بعد رحيله كلمات قلت فيها: "سأظل احفظ كلماتك رغم جفاف حبر القلم، يا أبي وإن رحلت عن عالمنا ستظل دائماً في عالمي".
القمص أنجيلوس جرجس