عاطف بشاي
على الرغم من مرور أكثر من مائة عام على تأليف كتابى «حياتى في الفن» و«إعداد الممثل» لـ«ستانسلافسكى» المخرج والكاتب الروسى المعلم والباحث القدير.. حيث تنوعت خلال تلك الفترة أساليب الأداء التمثيلى بتنوع وتعدد المدارس الفنية واتجاهات الإخراج المسرحى والسينمائى في شتى أنحاء العالم، فإننا مازلنا ندين لعبقرية «ستانسلافسكى» بالكثير.. ومازالت معظم توجيهاته وتعاليمه البراقة وآرائه الثاقبة فيما يتصل بالأداء الإبداعى للممثل يُعتبر بمثابة الأساس القوى الذي يستند إليه الممثل والمخرج إذا أرادا خلق عمل فنى قيم.. ويُعتبر كتاب «إعداد الممثل» تحديدًا بمثابة دستور الممثل والمخرج.. والمرشد الأمين في الدراسة العميقة لقواعد ودروس الإبداع الفنى في التقمص والتماهى مع الشخصية الدرامية بأبعادها المختلفة الاجتماعية والنفسية والجسدية.. وتطورها وتحولاتها ومصادر إلهامها.. ويسعى «ستانسلافسكى» منذ البداية إلى إبراز وتوضيح منهجه العام بتأكيد ذلك الفارق الشاسع بين الفن الحقيقى والتمثيل الآلى والقوالب الزائفة المعتادة التي يلجأ إليها الدجالون المشعوذون ممن يحترفون حرفة التمثيل لكى يصفق لهم الجمهور.. فهو يرى أنه لا يمكن أن يكون هناك فن حقيقى دون أن يعيش الفنان في فنه، مؤكدًا في عبارة بليغة «أَحِبَّ الفن في نفسك وليس نفسك في الفن».

ولن يتأتى ذلك إلا من خلال الدراسة والمعايشة للشخصية التي يؤديها.. ظروفها الاجتماعية.. عاداتها وسلوكها العام.. أحوالها النفسية. بدون ذلك يقع الممثل فريسة الإكليشيهات التقليدية الجامدة، التي صارت تقليدًا ممجوجًا ينتقل من جيل إلى جيل.. تلك القوالب التي ترى مثلًا- أن التعبير عن الحب يتضح من خلال وضع يد الممثل على قلبه والتعبير عن لحظات الفجيعة بحك الجبهة بظاهر اليد، والتعبير عن حالات اليأس بتغطية الممثل لوجهه وعينيه أو انتزاعه شعره..

هذا بالإضافة إلى تسطيح هذه القوالب لأنماط الشخصيات، فهى ترى الفلاح مثلًا هو ذلك الأمى الذي يمسح أنفه بذيل جلبابه.. والشرطى هو ذلك الوجه الصارم أو القدم الغليظة التي تدق الأرض بعنف، وفيما يختص بالفعل الدرامى يرى «ستانسلافسكى» أن كل شىء يحدث على خشبة المسرح أو شاشة السينما لابد أن يحدث لغرض ما، وعلى الممثل أن يدرك سبب وقوفه أو جلوسه أو تحركه من جهة إلى أخرى.. والفعل لا يستلزم دائمًا أن يكون مصحوبًا بحركة جسدية، فقد يكون جلوس ممثل على كرسى في غير حركة (فعلًا دراميًّا) يعبر عن معنى باطنى أو إحساس بعينه أو تعبير نفسى يدفع الدراما إلى الأمام لتحقيق الصراع الداخلى للشخصية.. ولابد للفعل الدرامى أن يكون مبررًا تبريرًا منطقيًّا يتسق مع السلوك الإنسانى.. ومتصلًا بغيره من الأفعال اتصالًا معقولًا وواقعيًّا.

ويطرح ستانسلافسكى السؤال التالى، ويجيب عنه بمثال حى: هل يمكن أن تكون هناك حركة في السكون الدرامى؟!. يقول: حدث ذات مرة أن اضطررت إلى إخبار سيدة بوفاة زوجها، واستطعت أخيرًا، وبعد تمهيد طويل، أن أنطق بالخبر الأليم، فاستولى الذهول على المرأة، ومع ذلك لم يظهر على وجهها شىء من ذلك التعبير المفجع، الذي يحلو للممثلين على الشاشة أو خشبة المسرح استخدامه.. وقد جعلنى انعدام التعبير على وجهها مضطرًّا إلى الوقوف بجانبها فترة تزيد على عشر دقائق، دون أن تبدر منى أدنى حركة.. وبعد مرور فترة طويلة على الحادث، سألتها عما كان يدور بخلدها في تلك الدقائق من السكون الرهيب، فعلمت أنها كانت تستعد لشراء بعض الحاجيات لزوجها، قبل أن يصلها نبأ وفاته بلحظات قلائل، فأخذ ذهنها يطوف خلال هذه الدقائق العشر من السكون البليغ، والتى كانت تعج- دون شك- بما يكفى من الحركة والفعل.. ولنتخيل أننا ضغطنا حياتنا الماضية كلها في دقائق وجيزة.. «أليس هذا فعلًا دراميًّا؟!».

أما الذاكرة الانفعالية فتعنى القدرة على استعادة الأحداث الماضية المتعلقة بمجموعة الانفعالات والانطباعات التي عايشناها أثناء وقوع هذه الأحداث، بحيث تكون هذه الاستعادة مؤثرة ومفيدة، ومن المهم جدًّا أن يدرك الممثل إدراكًا كاملًا تلك التغيرات والتحولات التي تطرأ على سلوك الشخصية التي يقدمها حتى يعتاد هذه التغيرات ويألفها ويفهم معناها وأهميتها الدرامية، فإن ذلك سوف يساعده على الانفعال الصادق دون افتعال أو تكلف، على أن كثيرًا من الممثلين يقعون في خطأ جسيم حينما يهتمون منذ اللحظة الأولى في تمثيلهم بإثارة الانفعالات الساخنة في نفوسهم ونفوس النظارة، وهذا ينتهى بهم بالطبع إلى الافتعال.. ولكى يتجنب الممثل الوقوع في هذا الخطأ، عليه ألا يشغل باله في البداية بمشاعره الفياضة إزاء الدور الذي يلعبه لأن هذه المشاعر سوف تطفو على السطح من تلقاء نفسها إذا ما أعد لها الممثل الظروف الداخلية الصادقة المرتبطة بالظروف الخارجية.. أي إبراز وتجسيد تلك العلاقة الجدلية بين المكونات النفسية للشخصية الدرامية وبين الإطار الاجتماعى والتاريخى الذي تعيش فيه.. وعلى الممثل أن يقسم السيناريو إلى مجموعة من الوحدات المترابطة، التي توضح له خط السير وتحقق الهدف الكلى من العمل، والممثل الذي يعجز عن ذلك يجد نفسه مضطرًّا إلى معالجة عدد كبير من التفاصيل السطحية غير المترابطة، وذلك يُفقده بلا شك الإحساس بالرواية بوصفها أكبر من هذه التفاصيل.. وهناك خطأ جسيم آخر يقع فيه الممثل حينما يفكر مباشرة في النتيجة أو الهدف من الدراما بدلًا من أن يوجه كل عنايته إلى التفكير في الفعل.. لأن الفعل في ارتباطه بمجموعة الأفعال التي يتكون منها العمل ككل إنما يمهد للنتيجة ويبررها.. لذلك فإن هذا الممثل المتعجل يحصل في النهاية على نتيجة مفتعلة مصحوبة بأداء زائف وزاعق.

وفى مجال الاتصال الوجدانى بين الممثلين، فإن من الأهمية أن يبذل الممثلون كل الجهد في سبيل المحافظة على التبادل المتصل والمتدفق للمشاعر والأفكار والأفعال التي تجرى بينهم خلال العمل الفنى.. لابد من وجود نوع من التيار المتصل بين الممثلين.. فالممثل الذي يتوقف عن التمثيل حتى يسمع العبارة التي تُشعره بحلول الدور عليه في الكلام يحطم الاتصال الوجدانى لأن التبادل المستمر يتوقف على مدى تقبل المشاعر أثناء النطق بعبارات الدور.. وفى أثناء الرد على تلك العبارات، حتى في أثناء لحظات الصمت، حتى تواصل الأعين للقيام بمهمة التبادل والاتصال.
نقلا عن المصرى اليوم