الأنبا إرميا
غدًا نحتفل بالذكرى المئوية لميلاد «بابا العرب»، «الذهبىّ الفم للقرن العشرين» مثلث الرحمات «البابا شنودة الثالث»، السابع عشر بعد المائة فى بابوات الإسكندرية، الذى عاش قلبًا كبيرًا يحتوى الكل صغارًا وكبارًا، وعقلاً رحبًا اتسع لكثير من العلم والثقافة والفكر، فهو الكاتب والمفكر والشاعر الذى أسر قلوب قرائه وأفكارهم بسلاسة أسلوبه وبساطته التى لا تخلو من عمق. لقد منحه الله شخصية متفردة تركت آثارًا لا تُمحى من ذاكرة كل من تعامل معه، لا فى «مِصر» فحسب، بل فى كل بلد زاره؛ فصار محل محبة واحترام وتقدير من قادة العالم.
حياة حافلة
وُلد «البابا شنودة الثالث» فى 3/8/1923م، بقرية «سـلام» بأسـيوط. تنقل مع شقيقه الأكبر «روفائيل» فى عدد من المدن، منها: «دمنهور» و«الإسكندرية» و«أسيوط» و«بنها»؛ وفى خلال تلك المدة اجتاز مراحله التعليمية الأولى. أما المرحلة الثانوية، فقد كانت فى «القاهرة» حيث التحق بـ«مدرسة الإيمان الثانوية» بجزيرة بدران بشبرا مصر بالقاهرة، ثم بالقسم الأدبى بـ«مدرسة راغب مرجان» بالفجالة. التحق بالكلية الإكليريكية سنة 1946م، وتخرج فيها سنة 1949م، وكان ترتيبه الأول بين أقرانه، ثم درّس بها فى السنة التالية. حصل على ليسـانس التاريخ فى كـلية الآداب جامعـة فـؤاد الأول (القاهرة حاليًا) سنة 1947م، وتخرج فى كلية «الضباط الاحتياط» فى السنة نفسها وكان أول الخريجين. وبعد تخرجه، عمل بمجال التدريس حتى عامة 1949م حين تكرس للخدمة وللتدريس بالكلية الإكليريكية. صار راهبًا بدير السيدة العذراء بوادى النطرون (السريان) باسم الراهب «أنطونيـوس السـريانى» فى 18/7/1954م، ثم اشتاق إلى حياة الوحدة فأقام بمغـارة تبعد قرابة 5‚3 كيلومتر عن الدير، ثم انتقل إلى مغارة أخرى تبعد 12 كيلومترًا تقريبًا. رُسم أسقفًا عامًّا للتعليم والمعاهد الدينية والتربية الكنسية باسم «أنبا شنودة» فى 30/9/1962م ليصبح أول أسقف عام على مسؤولية هى التعليم الكنسىّ. ثم رُسم بطريركًا على كرسىّ «مار مرقس الرسول» فى 14/11/1971م، وظل يرعى شعبه بأمانة حتى نياحته فى 17/3/201٢م.
وقد وهبه الله كثيرًا من المواهب كمقدرته الفائقة على الحفظ، فيذكر قداسته: «وأذكر أيضًا أننى، عندما كنت فى الصف الرابع الابتدائى، اشتركت فى مسابقة فى حفظ المزامير، فحفِظت المزمور رقم (19) (وهو أحد المزامير الطويلة): «السماوات تُحدِّث بمجد الله والفَلَك يخبر بعمل يديه...»؛ ومنحونى جائزة الفوز بالمسابقة إنجيلاً مُذهَّبًا... وقد استهوتنى أيضًا قراءة الشعر وحفظت كثيرًا منه»، وكنظمه الشعر على الرغم من حداثته، فيقول: «وبدأت أنْظِم القريض، وأنا ما أزال فتى فى الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة من العمر». وكانت السنوات 1946 حتى 1962م هى أكثر إنتاجه الشعرى حيث كتب قرابة 25 قصيدة روحية ومئـات من الأبيـات. أما عن كتاباته، فقد بدأ فى نشر مقالاته بمجلة «الحق»، ثم بدأ يكتب قصائد ومقالات روحية بمجلة «مدارس الأحد»، وأصدر العدد الأول من مجلة «الكرازة» - التى ظل يرأس تحريرها 47 عامًا - فى يناير 1965م. كذلك كتب مقالات لعدد من الجرائد القومية، إلى جانب إنتاجه الفكرى من الكتب التى وصل عددها إلى قرابة 140 كتابًا، تُرجم عدد منها إلى ما يزيد على 12 لغة.
لا يسعنى الوقت أن أتحدث عن البابا الإنسان الذى احتمل هموم الآخرين ومشكلاتهم أبًا حانيًا يهتم بأبنائه فى مِصر وكل مكان بالعالم، وبالأخص الفقراء والمحتاجون الذين أولاهم اهتمامًا وعناية فائقة حتى فى أشد حالات مرضه، واضعًا نصب عينيه راحة الآخرين ولو على حساب راحته الشخصية. بل قد تنساب منى الساعات الطوال إن حاولت أن أخوض فى محبته الفائقة للوطن الذى فيه دائمًا ما كان يردد: «مِصر ليست وطنًا نعيش فيه، بل وطن يعيش فينا».
ولقد انطلقت رائحة سيرته العطرة إلى كل مكان، فاستقبله بكل حفاوة وتقدير رؤساء العالم وملوكه، ونال عديدًا من الجوائز الدولية، منها: أعلى وسام فى إثيوبيا «وشـاح سليمـان الأكبر» من الإمبراطـور هيلاسـيلاسى، جائزة «مادنزيت سينج للتسامح» من منظمة UNESCO، جائزة أفضل واعظ ومعلم للدين المسيحى فى العالم من مؤسسة Browning الأمريكية، جائزة حقـوق الإنسـان من «ليبيا»، وسام دولة المجر ووشـاح من رئيسها، جائزة «أوجسبورج Augsburg» الألمانية للسلام، وسام «الصليب الأكبر للقديس إغناطيوس» من الكنيسة السريانية، جائزة «الماس» من مؤسسة الكاردينال كينج الكاثوليكية فى ڤيينا بالنمسا؛ كما منحته جامعات الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا والمجر تسع شـهادات دكتوراة فخـرية.
سوف يظل «البابا شنودة الثالث» أيقونة قبطية مِصرية حية نابضة فى ذاكرة التاريخ كل الأزمان، إنه «الغائب الحاضر» فى قلوب كل من عرَفوه، و... والحديث فى «مصر الحلوة» لا ينتهى!.
* الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى
نقلا عن المصرى اليوم