نيفين مسعد
عندما عادت الكهرباء إلى المطعم الأنيق بعد انقطاع دام أقل قليلًا من ساعة بدأ كل شئ يتحرّك ودارت عجلة الحياة في المكان: تجهيز الطلبات في المطبخ، قعقعة الأكواب والزجاجات فوق الصواني، صوت التكييف الذي يُطرِب في ظل لهيب القبة الحرارية وكأنه السيمفونية التاسعة لبيتهوڤن. سمحَت عودة الإضاءة بإلقاء نظرة على المكان وتأمّل بعض التفاصيل الصغيرة، فمع إنني من عشّاق الليل إلا أنني لا أحبّ الظلام لأن فيه وَحشَة وغموض. بعض الموائد التّف حولها عشرة أشخاص وربما أكثر من ذلك، أطلَقتُ العنان لخيالي وأنا أتصوّر قيم الفواتير الفلكية التي باتت تقصم ظهور أبناء الطبقة الوسطى مع كل خروجة يلتئم فيها شمل العائلة. صارت وحدة التعامل النقدي تبدأ من الألف جنيه واختفت ما دونها من وحدات. على واحدة من الموائد الكبيرة كانت تجلس شابة قليلة المساحيق والبهرجة ذات ملامح مصرية، ترتدي فستانًا رقيقًا وقصيرًا من الدانتيل الأبيض تشدّه إلى أسفل كلما قامت أو جلسَت، وإلى جوارها شاب لا يقلّ عنها بساطة يرتدي ثيابًا نصف رسمية ومتيّم على الآخر، يميل عليها ويهامسها بين الحين والآخر فتبتسم في وقار. هنا تبدأ قصة غرام أو تظهر أو تتطوّر، اعتدَلتُ في جلستي راضيةً، أحبّ جدًا هذه الثنائيات وأحبّ جدًا هذه المشاعر البِكر التي يختلط فيها الفضول بالانجذاب بالإعجاب مع شئ من الارتباك في وجود الآخرين، فمن حول المائدة كان هناك عدد لا بأس به من الأقارب والأصحاب من الجنسين. ازدحم المطعم وتمايَلت كُتل الزهور المدلاة من السقف بفعل نسمات التكييف فبدت كما لو كانت ثريات راقصة، مرّ عُمّال المطعم على الموائد وأوقدوا الشموع السابحة في بعض دموعها المتجمّدة، وأصبحَت الأجواء شديدة الأُلفة.

• • •
من بعيد تقدّم عازف البيانو المحترف الذي يعرفه جيدًا روّاد المطعم ويأتون للاستماع لعزفه خصيصًا في عطلة نهاية الأسبوع، أكسبَته خبرة الشعر الأبيض ورحلاته حول العالم مهارة في اختيار المقطوعات الغربية والشرقية على حدٍ سواء، فأصبح يعزف وهو سايب إيديه. التفّت حوله مجموعة من البنات بدا واضحًا أنهن كنّ مستعدّات ببعض الأغنيات الغربية الشهيرة افتتحنها بأغنية those were the days الساحرة، ومضى يعزف وهن يغنين. في لحظة معينة سمح لإحداهن بأن تمّر بأناملها على أصابع البيانو لتشاركه العزف والنشوة، ودارت كاميرات الموبايلات تسجّل هذه اللقطة الطريفة. بشكل عام كان تفاعل الحاضرين مع الحدث تفاعلًا منضبطًا يتفق مع رقي المكان. ثم إذ فجأة دخَلَت أغنية شادية "يا دبلة الخطوبة عقبالنا كلنا" على خط الغناء والعزف الغربي فانقطع الاثنان وسيطرَت كلمات جليل البنداري وموسيقى منير مراد على الموقف. مهما أبدع الشعراء في وصف جمال هذه اللحظة، ستظّل أغنية يا دبلة الخطوبة هي البريمو. تحوّل روّاد المطعم للاحتفال بالشابة إياها مصرية الملامح وحبيبها المتيّم على الآخر وهما يتبادلان الدبل والنظرات، انهالت عليهما التهاني وقام الجميع معهما بالواجب. أصبحَت مائدتهما في بؤرة الاهتمام والضوء والسعادة والنميمة، ليس فقط بسبب الاحتفال ببداية حياة جديدة، لكن لأن المائدة كان لديها المزيد الذي تشغل به كل مَن حولها. اندفع رجل ستيني، هو على الأرجح والد العروس، صوب عازف البيانو ومال عليه بجسمه الممتلئ، همس في أذنه ببضع كلمات فمضى العازف يقلّب في أوراق نوتته الموسيقية حتى توقّف عند: أهواك. هل يوجد فينا مَن لم يحبّ أهواك أو لم يحبّ على كلمات أغنية أهواك؟. مع أولى نغمات الأغنية راح الرجل ضخم الجثة يرسم بيديه علامة قلب كما يفعل شباب هذه الأيام وأرسل قلبه لزوجته مشفوعًا بقبلة هوائية. دعاها لتلحق به فلم تتردد، خاصرَها ووقفا معًا على يسار العازف يغنيان أهواك. لم يكن لهما صوت جميل لكن غناءهما المشترك كان أكثر من جميل.

• • •
مَن ذا الذي يقطع بأن للحب دورة حياة لابد أن يمّر بها من ربيع لصيف لخريف؟ ومَن الذي يستطيع يجزم بأن المشاعر تتيبّس بفعل الاعتياد والتكرار والمشاكل والمسؤوليات؟ تتيبّس المشاعر ويدرك الحب نهايته فقط عندما تغيب إرادة الحب، فكما أن في الحب فطرة وتلقائية وطبيعية يوجد فيه أيضًا حرص وقصد وتعمّد خصوصًا بعد أن تفقد المشاعر قوة الدفع الذاتي التي تكتسبها في البدايات الأولى. هذا الزوج الذي ذهب للعازف خصيصّا وأبان للجميع مشاعره تجاه شريكة حياته- امتلك إرادة الحب وجرأة الاعتراف في هذا العمر، ألقى وراء ظهره المثل الذي يقول لن نأخذ زماننا وزمان غيرنا ولم يجد أي تعارُض بين أن تكون الليلة هي ليلة ابنته وتكون في الوقت نفسه ليلته هو. قضى مع امرأته ٤٤ عامًا بالتمام والكمال كما قال للعازف بصوتٍ مسموعٍ للجميع ومازال يهواها، والفارق هنا كبير بين الهوى والوَنَس، فالهوى يصاحبه وَنَس بالضرورة لكن كل ونَس لا يقترن حتمًا بالهوى. اختار الأغنية التي لاشك كان لها نصيب من ذكرياتهما الحلوة طيلة رحلة الأربعة وأربعين عامًا، ومارس البوح والإفصاح أمام ناس لا يعرفهم وربما لن يلتقي بهم ثانيةً. أرضَى غرور زوجته واهتم بها في وقت ذهب فيه كل الاهتمام للابنة وخطيبها، ودلّوني على امرأة واحدة لا يحتاج غرورها للاسترضاء. في هذا المشهد المختلف الذي بدأته دبلة الخطوبة وأنهته أهواك كان هناك ربيعان واحتفالان وأغنيتان وأربعة محبّين لا يميّز بينهم إلا الخبرة وبعض التجاعيد. ممتّنون نحن لك أيها المحّب الكبير الذي نجهل أصله وفصله ومن أين أتى، ممتّنون لك لأنك أعدتَ لنا اليقين بأن الخريف ليس قدرًا وبأن المشاعر ليست لها تواريخ صلاحية، وممتّنون أيضًا لأنك في هذه الليلة المختلفة منحتنا بهجة تضاف إلى ابتهاجنا بابنتك العروس وخطيبها المتيّم.
نقلا عن الشروق

ليس لكل حبٍ خريف