القمص يوحنا نصيف
الأيقونات ليست فقط مجرد رسم ديني، كوسيلة إيضاح توقظ المشاعر، لكنها أيضًا أحد السُبُل التي يُستعلَن بها الله للإنسان فمن خلالها نرى العالم الروحي..!
رسّام الأيقونات الكنسيّة الأرثوذكسية ليس حُرًّا تمامًا في الابتكار، ولكنه ملتزم بإظهار روح الكنيسة وعقيدتها في الأيقونة.. لذلك من المهمّ أن يكون دارسًا لعقيدة الكنيسة الأرثوذكسيّة، وليس فقط لأصول الفنّ القبطي الأرثوذكسي.
من الضروري أيضًا أن يكون الفنان تائبًا ومتقدسًا بالتناول، لكي يستريح الروح القدس فيه، ويضع لمساته الإلهية في الأيقونة.
أيقونة القديس هي حضور حيّ له في الكنيسة، لذلك يمكن مخاطبته والتعامُل معه من خلالها..
الأيقونات بوجه عام هي نوافذ على السماء، أو هي إطلالة من القديسين والملائكة علينا نحنّ سكان الأرض.. فعندما ندخُل الكنيسة ونجد فيها أيقونات القديسين نتذكّر أنّ هؤلاء هم سحابة الشهود المحيطة بنا (عب12: 1).. هم أعضاء أسرتنا في جسد المسيح الواحد، وقد سبقونا إلى السماء.. وهم يشجّعوننا لكي نكمّل جهادنا بأمانة، حتّى نَرِث معهم أمجاد الملكوت.
حارب البعض الأيقونات على أنّها من بقايا الوثنية، ولكنّ الكنيسة تردّ عليهم بالآتي:
1- إن كان الله قد أوصى شعبه في العهد القديم قائلاً: "لا تصنع لك صورةً أو تمثالاً" فالهدف جاء في تكملة الآية "لا تسجد لهنّ ولا تعبدهنّ"، وقد أمر الله موسى بعد ذلك بصُنع الكاروبَيْن فوق تابوت العهد، ثمّ الحَيّة النحاسيّة... وكانت النقوش البارزة تَملأ الهيكل، ولم تكن كلّ هذه أو تلك أصنامًا للعبادة... لذلك يوضِّح لنا الكتاب المقدّس أنّ "الحرف يقتل لكن الروح يحيي" (2كو3: 6).
2- نحن لا نعبد الأيقونات وإنّما نكرمها، وفي ذلك تكريمٌ لأصحابها؛ حسب قول الربّ: "إن كان أحد يخدمني، يكرمه الآب" (يو12: 26). فإذا كان الآب يكرم قدّيسيه ألا نكرمهم نحن؟! وبالمثل نكرم أيضًا الصليب ونسجد أمامه للمصلوب عليه.
3- التاريخ يشهد للأيقونات.. فهي ترجع للعصر الرسولي. فمثلاً نسمع أنّ لوقا الإنجيلي كان رسّامًا، وترك لنا عِدّة أيقونات، منها أيقونة للسيدة العذراء.. والسراديب المسيحيّة والكنائس الأثرية من القرون الأولى، مرسومٌ على حوائطها، وموجود بها الكثير من الأيقونات... ولم يَكُن في هذا هرطقة.
4- الأيقونة الكنسية تُدَشَّن بالميرون، فتصير ممسوحةً بالروح القدس، ويُمكِن التبخير أمامها والتبارُك منها.
يوجد في تاريخ الكنيسة نماذج بديعة للاهتمام بفنّ الأيقونات.. فمَثَلاً: في القرن الثاني عشر نرى الأنبا ميخائيل مطران دمياط الذي وَجَدَ أنّ الكثيرين من أبنائه للأسف يجهلون القراءة والكتابة، فأراد أن يوصل لهم بُشرى الخلاص باللغة التي يستطيعون قراءتها وهي لغة الفن. فرسم تسعين صورة للبشائر الأربعة. وكلّ صورة تشمل مجموعة من المناظر التوضيحيّة للحادثة أو المعجزة أو المَثَل.. مرسومةً على الطريقة الفرعونية، أي في صفوف متتاليّة تتخلّل سطور البشائر الأربعة المكتوبة باللغة القبطية [هذا العمل الفني النادر يحمل تاريخ 1179-1181م وهو محفوظ الآن بالمكتبة الأهليّة بباريس تحت رقم "مخطوط قبطي13"]
وأخيرًا فإنّ فنّ التصوير والرسم الكنسي بصفة عامة هو نافع جدًّا ومؤثِّر في النفس، إذ أنّ الصورة تقرِّب الفِكرة للأذهان، وتُثَبِّت الإيمانيات، وتزيد رابطة المشاعر والمحبّة بيننا وبين القديسين، وهذه كلّها أمور إيجابية نافعة للبنيان.
الأيقونة المرفقة هي من أعمال الفنّانة القبطيّة تاسوني سوسن، وتصوِّر الأرملة التي ألقت الفلسين في صندوق الهيكل (مر12: 41-44، لو21: 1-4)، وهي حريصة ألاّ تُعرِّف شمالها ما تفعل يمينها (مت5: 26)، بينما الأغنياء يمسكون بالأموال الكثيرة ويضعونها في الخزانة بافتخار.. وقد مدح الربّ يسوع تلك الأرملة الفقيرة قائلاً أنّها أعطت أكثر من الجميع، إذ قدّمَت من أعوازها، كلّ معيشتها.