د. محمد طه
مجتمعاتنا متمسكة جدا بفكرة الحسد.. وغير مستعدة لمجرد التفكير فيها أو مراجعتها أو حتى إعادة النظر لها.
الحسد مذكور فى القرآن طبعا.. وموجود.. وناس كتير بتحسد فعلا.. بمعنى إنها بتتمنى زوال النعمة وانقضائها عن صاحبها.. لكننا بنبالغ جدا فى رؤيتنا لتأثير الحسد.. واعتقادنا بمدى قدرة الحاسد.. وتصديقنا فى قوته وأثر فعله.
 
احنا بنضفى على الحسد أوصافا خارقة.. وبنحيطه بهالة كبيرة من الخزعبلات والخرافات والأساطير.. وبنضع الحاسد فى مراتب ومصاف الآلهة.. بدون أى مبالغة.
 
لما بنشوف عرض نفسى عند أحد المرضى، ويكون المريض متمسكا بالعرض ده جدا وبيقاوم تغيره أو اختفاءه، بنسأل نفسنا سؤال مهم: هو إيه وظيفة العرض ده عند المريض؟ إيه الفايدة اللى بتعود عليه من استمرار وجوده؟ إيه اللى هايخسره المريض لو تخلى عن هذا العرض؟
يعنى مثلا، فيه مجموعة أعراض شهيرة فى الطب النفسى اسمها أعراض البارانويا.. يعنى حد متصور إن الناس بتكرهه، بتتكلم عليه، بتتآمر عليه وبتدبرله المكائد أحيانا.. بيراقبوه وبيتجسسوا على كلامه وأفعاله وأحيانا نواياه.. عاوزين يموتوه.. عاوزين يخلصوا منه.. بيحطوله السم فى الأكل.. مركبين له كاميرات مراقبة.. بيقروا أفكاره.. وتصورات واعتقادات أخرى من هذا القبيل.. بنسميها ضلالات Delusions.
 
وقد يتمادى الأمر تعقيدا، ويبدأ المريض فى صنع روابط وهمية بين بعض الأحداث (هو أكيد حصل كذا لأنهم عملوا كذا….)، وتفسيرات غير منطقية لبعض المواقف (الحروف دى مترتبة بالشكل ده، علشان توصلى رسالة كذا…)، ويتكون ما يسمى بالذاكرة الضلالية Delusional Memory وسوء التفسير الضلالى Delusional Misinterpretation.
 
لما نيجى نفكر فى وظيفة هذا العرض لدى المريض بنلاقى إن ليه وظيفة بسيطة جدا، وعميقة جدا فى نفس الوقت. الوظيفة هى توصيل رسالة نفسية مهمة وحيوية للمريض بتقوله: انت مهم.. انت وجودك ليه لازمة.. انت من أهميتك الناس بتكرهك.. ومن خصوصيتك بيراقبوك ويتآمروا عليك.. ومن تميزك عاوزين يحطولك السم فى الأكل ويموتوك.
 
الرسالة البسيطة دى بتحاول تعوض رسايل كتير بتكون وصلت للمريض منذ طفولته بتقوله: انت قليل.. انت مالكش أى لازمة.. وجودك مايعملش أى فرق..
 
الرسالة المرضية التعويضية دى ممكن تحمى المريض من الانتحار.. حتى لو كان الثمن هو الجنون.
الحسد موجود.. لكن الاعتقاد الشديد بمدى تأثيره هو شكل من أشكال البارانويا.
الحسد مذكور فى القرآن.. لكن إصباغ قدرات وصفات إلهية على الحاسد مش مذكور فى القرآن.
الحسد رغبة شريرة سوداء فى نفس الحاسد.. لكنها ولا بتفقر.. ولا بتمرض.. ولا بتموت.. بالعكس.. دى بتاكل فى روح صاحبها أكتر من أى حد تانى..
الحسد مش بيفقر غير شخص فقير المعرفة، ضعيف المنطق السليم.. أنا مهم وجامد وناجح أوى.. علشان كده بيحسدونى.
ومش بيُمرِض غير أفراد وعائلات غارقة فى التأويلات والتفسيرات الوهمية المريضة.. هو جاله مغص علشان العين.. وهى ماتجوزتش علشان محسودة.
 
ومش بيموّت غير فى مجتمعات معادية للعلم والثقافة والفن والدين الحقيقى.. ده اتشل علشان اتنظر.. وده جاتله جلطة علشان اتحسد.
الحسد هو بارانويا المجتمعات المتأخرة.
 
طبعا فيه وظايف وفوايد تانية كتير ورا هذا التمسك الشديد بقوة الحسد وتأثيره.
 
الحسد بيعفى من المسئولية.. ده سقط علشان اتحسد.. وده فشل فى شغله علشان راكبه عفريت.. ودى اتطلقت علشان معمولها عمل.
 
الحسد بيبرر الكره والبعد وقطع الأواصر.. ولاد خالتها بيحسدوها.. أصحابَك عينهيم عليك.. الناس مش سايبانا فى حالنا.
 
الحسد بيمنع الامتنان.. بيمنع الشكر والعرفان بالجميل.. بيخليك ماتشوفش عطاء غيرك ليك.. وتشوف بس عطاءك لغيرك.. بيخليك بدل ما تبص للحاجات الحلوة اللى فى حياتك وتمتنّ ليها.. تركز على المساوئ والصعوبات والبلاوى وتشتكى منها.. بالمناسبة، الكتاب الأشهر والأهم لعالمة النفس البريطانية الشهيرة ميلانى كلاين كان اسمه Envy and Gratitude.. «الحسد والامتنان».. علشان الحسد عكسه الامتنان.
 
الحسد بيخليك تعيش دور الضحية.. وتستمتع بيه.. وتعمل دماغ منه.. وتلبّس أى حد من اللى حواليك.. أى حد معدى فى الشارع.. أى حد يعرفك أو مايعرفكش.. دور الجانى.. ويالها من نشوة.
 
الحسد بيخلق مهن ووظايف وبيزنس كبير جدا.. اسمه الدجالين والمشعوذين والمعالجين الروحيين.
 
الحسد بينمو كلما قل الوعى، ويكبر أينما خفت العقل، ويترعرع حيثما اضمحل الفكر.
 
هل الكلام ده هايغير أى حاجة؟
مش متأكد..
لأن التنازل عن معتقد متجذر ومتأصل بالشكل ده معناه انهيار بناء الشخصية تماما.
ولأن التخلى عن يقين راسخ بقوة الحسد الخارقة معناه أن الناس تصحى الصبح تشيل مسئولية حياتها وأفعالها ونتائج أفعالها بنفسها.
ولأن اهتزاز.. مجرد اهتزاز هذه المنظومة الفكرية الثابتة معناه زلزال عقلى ونفسى وروحى شديد للغاية.
ما هى الناس اللى متصورة إن ابنها محسود علشان جاب خمسة وتسعين فى الميه فى الثانوية العامة تروح فين؟
والناس اللى مصدقة إنهم محسودون على التكييف الجديد يعملوا إيه؟
والناس اللى بتخاف تلبس لبس جديد أحسن يتحسدوا يودوا خوفهم فين؟
الحسد ــ بهذا الشكل ــ له وظائف وله فوائد.
يا سيدى الفاضل.. انت مهم ومطلوب ومرغوب.. بس بقدر ما بتتعب وتعمل وتجتهد.. مش لازم تتصور إنك أهم واحد فى الدنيا وكل العيون عليك.
يا أخى العزيز.. انت موجود ووجودك ليه لازمة وكل حاجة.. بس بقدر ما تضيف للوجود.. مش بقدر خيالاتك المريضة إن قرايبك ومعارفك وأصحابك بيحسدوك..
يا سيدتى الكريمة.. انتى زى الفل.. بإحساسك بنفسك وثقتك فيها وعلاقتك بالحياة.. مش بتفسيراتك الوهمية الخرافية لكل اللى بيحصلك إنه عين وحقد وغل وحسد..
توكلوا على الله.. يرحمكم الله.