د. محمد طه
مندوب شحن اكتشف ان الأوردر اللى هايوصلّه فيه ملابس حريمى، لو اتلبست بره البيت هاتكون (غير شرعية)، وان الأوردر رايح لواحدة ست.. فاتصل باللى باعتة الأوردر علشان يتأكد ان الست اللى هاتستلمه، هاتستخدمه داخل البيت فقط!

تقدر تقف عند المشهد ده، وتستغرب وتستعجب.. تقدر تقول ان الولد فهمه للدين قاصر ومغلوط.. وان ده تجسس على الناس وتدخل فى خصوصياتهم.. تقدر تتندر وتضحك وتقول افيهات وتشير صور وميمز.. وتعتبر دى نكتة.. وحادث نادر..

لكن تعال حط المشهد التالى جنبه:
فيه حد واتنين وتلاتة وعشرة وعدة آلاف وربما أكثر، شايفين ان اللى عمله مندوب الشحن ده شئ جميل، بيحرص فيه على عدم الوقوع فى أى مخالفة، وانه كده بيتقى الله فى شغله، رغم ان أسهل حاجة عنده انه يعمل شغله (فقط) ويوصل الأوردرات، ومالهوش دعوة باللى فيها. مش بس كده.. دول عملوله دعاية وشكر وتشجيع ومدح وإطراء.. واضفاء الكثير من الجمال والرومانسية والرقة والأدب على اللى عمله..

تعالى نحط مشهد ثالث فى الصورة..
من عدة أيام، محامية بتبص من الشباك لقيت ولد وبنت قاعدين على البنش أو الرصيف، والبنت حاطة راسها على كتف الولد.. فتحت تليفونها وصورتهم وصرخت بأعلى صوتها، ونزلت الفيديو على السوشيال ميديا وفضحتهم مش بس فى مصر.. لا.. فى الدنيا كلها.

مشهد رابع متكرر.. واحدة ست بتشد أو بتقص شعر بنت فى المترو أو فى الشارع لأنها شايفاها كاشفاه رغم انها المفروض تغطيه..

مشهد خامس.. من حوالى سنتين.. واحد بيبص من شباك شقته فى التجمع، شاف فى بلكونة عمارة على مسافة بعيدة منه، واحدة ست أجنبية بتنشر الغسيل بملابس غير لائقة فى نظره.. مسك الموبايل وعمل زووم شديد وصورها ونزل الفيديو على السوشيال ميديا.. وبلغ البوليس.. اللى اقتاد الست الأجنبية للقسم.

ابعد كده عن الصورة شوية.. وقولى شايف ايه؟
قادر تشوف خيط واحد يربط بين كل المشاهد دى؟ واخد بالك ان نفس الخيط ممكن يربط بينها وبين مشاهد أخرى غيرها كتير؟
تفتكر البوستات والتعليقات الكتيرة جداً، اللى كانت بتدافع عن (محمد عادل) قاتل المرحومة (نيرة)، لأنهم شايفينها (من خلال صورها ولبسها) بنت غير ملتزمة وغير محتشمة، وانها غررت بيه، وتستاهل اللى يحصل لها، تفتكر ده ينفصل عن نفس السياق؟

تفتكر بوستات وفيديوهات من يحرض على النساء ليل نهار باسم الدين، ويبرر التحرش بهم، ويحض على ضربهم وعقابهم و(تأديبهم)، ويحذر من عملهم وشغلهم وخروجهم، ويستعرض أفكاره العنصرية ضدهم بمنتهى البجاحة، ويمارس ويبث ويعلم مريديه كل أشكال البلطجة الاليكترونية والتنطع الذكورى والسماجة المخلوطة بالسرسجة والاستحقاق والنرجسية الفكرية التى تنتظر فقط الفرصة المناسبة للتحقق على أرض الواقع وفى عرض الشارع، تفتكر ده مالهوش علاقة بنفس الصورة الأكبر؟


مشهد مندوب الشحن مضحك..
مشهد من يشجعوه ويدعموه مزعج..
باقى المشاهد مخيفة جداً..
والصورة الأكبر مرعبة..

عارف إيه أكتر حاجة مرعبة فى الصورة الأكبر؟
انه على أرض الواقع الأمور بتتجه لتكوين فريقين.. عكس بعض تماما.. فريق شايف ان فرض الوصاية على الناس من حقه.. والتسلط عليهم من واجبه.. وفرض أفكاره رغماً عنهم من مقوماته.. والفريق التانى بيحاول يحمي خصوصيته.. ويدافع عن حرمة حريته.. ويحط حدود واضحة لكل من يحاول التعدى عليها تحت أى مسمى..

الفريقين ماشيين فى خطين (فكريين) متوازيين.. لا يلتقيان أبداً.. وكل منهم ليه دوافعه.. ومعاه معداته ودروعه.. ومقابلتهم على الأرض لن تكون إلا بالصدام والمواجهة..

 مجتمعين غير بعض.. قربوا يبقوا شعبين غير بعض.. دول بيكفروا دول.. ودول بيسخروا من دول.. دول بيحقدوا على دول.. ودول بيحتقروا دول.. دول بيشتموا ويسبوا دول.. ودول برضه بيشتموا ويسبوا دول..

.Massive splitting بكل معانى ومستويات الكلمة
عارف ايه اللى مرعب أكتر من كده؟
لو أخدت بالك من سرعة تحويل الأحداث والمواقف مؤخراً إلى نكت.. ودعابة.. وسخرية.. وصور.. وميمز.. دى مش روح الفكاهة والتندر المعروفة عن مجتمعنا، واللى فيها كتير من العمق والحكمة واستخلاص البصيرة.. دى حاجة سطحية وسريعة ومتشنجة تخرج قبل أن يتم لها أى هضم أو استيعاب بالقدر المناسب.. رد فعل سريع ولحظى يمنع الخبرة ولا يحتويها.. يطرشها (يتقيأها) قبل أن يبلعها.. يرميها فى الوش دون اعادة صياغتها.. ده شئ مقلق جداً.. وعمال يتضح ويتكرر..

المغالاة فى التدين هروب من الدين الحقيقي.. اللى يقربك من نفسك ومن الناس ومن ربنا..
ولكل فعل رد فعل مساو له فى المقدار ومضاد له فى الاتجاه..
واذا كان مشهد مندوب الشحن مضحك..
فالصورة الأكبر مرعبة..
د. محمد طه