فاطمة ناعوت
(الجميلاتُ/ يقفن على أطرافِ أصابعِهنّ/ من وراء سورِ الحديقةِ/ كى يختلسنَ النظرَ إلى الوسيم الذى يُدخّنُ الغليون. ستخطفُ قلبَه بنتٌ/ تتعثّر فى جدائلها البنيّة / وفستانِها القصير/ وخَفَرها/ لكنه/ حين يلكزُها بكتفِه/ كأنما دونَ قصدٍ/ سوف ترمقه بنظرةٍ غضوبٍ/ وتمضى/ سارقةً قلبَه/ فى خِبائها. سيطيرُ الفتى إلى السماء/ بعدما يترك لها عصفورين آسرين/ يتعلّمان الشدوَ/ فتقفُ على ضفّة النهر تناديه/ كما نادتْ إيزيسُ أوزوريسَ/ وقبل أن تسمع وجيبَه آتيًا من عمقِ الماءْ/ تُلقى على صفحة النهر «حابى» زهرةً حمراءَ/ وتهمس:/ لا تخفن يا بنات مصر/ تلك آخرُ عروسِ نيلٍ/ قربانًا أقدِّمُها/ للنحيل ذى الأنفِ القيصرىّ/ الذى أشعل «الشموعَ السوداءَ»/ لكى ينيرَ قلبى).
هذا مقطعٌ من قصيدة «عروسُ النيل» التى كتبتُها قبل خمسة عشر عامًا فى السيدة الجميلة «زينب لطفى»، زوجة مايسترو كرة القدم كابتن «صالح سليم» حين اصطحبتُها إلى القرية الفرعونية للاحتفال بعيد «وفاء النيل». فى القرية الفرعونية ألقت «زينب هانم» معنا وردةً حمراء؛ رمزًا لدُمية الجرانيت الأحمر على شكل «عروس النيل»، التى كان أجدادنا القدامى يدللون بها النيل. وكان التمثالُ على هيئة فتاة جميلة تشبه «إيزيس» التى أغرقت بدموعها الوادى حتى صار الوادى نهرًا، حزنًا على فقد زوجها «أوزوريس». نظرتُ إلى «أبله زوزا» كما كنتُ أناديها، وهى تلقى وردتها فى النيل وقلتُ لنفسى: «لابد أن الربّة إيزيس كانت تشبه هذه السيدة الجميلة!» ولهذا كتبتُ فيها تلك القصيدة، التى أحكى فيها عن لقائها الأول بزوجها الوسيم كابتن «صالح سليم» فى النادى الأهلى، وكانت مع رفيقاتها اللواتى يتطلعن لرؤية ومصافحة هذا الشاب الرياضى الشهير. ولكن الجميلة «زينب لطفى» هى التى خطفت قلبه دون غيرها من بنات الدنيا.
فى رحلة العودة بالباخرة من جزيرة «القرية الفرعونية» وقت الأصيل، نظرت السيدةُ الجميلة «زينب لطفى» نحو السماء ورأت القمر هلالًا، فقبّلتنى برقّة وقالت: (شاهدتُ ميلادَ القمر وأنتِ معى! كل ما أشوف القمر هافتكرك!)، ثم أذّن المؤذن، فسألتنى عن طرحة فى سيارتى لتُصلى. وحين لمحتْ فى إصبعى خاتمًا فضيًّا مكتوبًا عليه بالخط الكوفى: «فالله خيرُ حافظًا». أعجبها، فأهديتُها إياه. أطرقت وقالت فى عتاب: (بس فين: «وهو أرحم الراحمين»؟)، ثم أردفت تقول: (تعرفى، أنا بحبّ الآية دى جدًّا، ودايما أدعو بها فى سجودى لولادى: خالد وهشام).. لهذا أخفينا عنها حقيقة مرض ابنها الأصغر الفنان الجميل «هشام سليم» الذى امتد شهورًا، لكيلا ينفطر قلبُها. وحين رحل عن عالمنا العام الماضى، أخفينا عنها الأمر كذلك، ومُنعت عنها الجرائدُ والتليفزيون، وكنتُ أتحاشى زيارتها خوفًا من أن ينكشف الأمر حين تتكلم عن «هشام» كالعادة، أو تطلب منى أن أهاتفه كما نفعل فى كل لقاء. وفى أحد الأيام قبل أربعة شهور، هاتفتنى وقالت: «خلاص عرفت يا حبيبتى، وقريت كمان مقالك عن هشام حبيبى اللى كتبتيه لما مشى. وعرفت ليه مكنتيش بتزورينى كل المدة دى. تعالى بقى». وعاودتُ زيارتها فى بيتها الجميل بالزمالك، لكن الحزنَ كان قد هدّها، فرقدت شهورًا طوالًا حتى رحلت عن دنيانا الأسبوع الماضى، لتترك فى قلبى فراغًا كبيرًا ووجعًا.
كانت تهاتفنى كلما قرأت لى مقالا فى جريدة أو مجلة أو شاهدتنى فى لقاء تليفزيونى. وكنتُ أزورها كلما مررتُ بالزمالك. واصطحبتُها كثيرًا إلى دار الأوبرا، وكانت ضيفة غالية على صالونى الشهرى. وبعد صدور كتابى الأخير عن ابنى «عمر»: «من الشرنقة إلى الطيران»، قرأته وناقشتنى فى كل تفاصيله وطلبت من «عمر» أن يأتى بلوحاته، وكانت تشجّعه وتمازحه وتحكى له عن طفولة «هشام»، وكيف كان من أجمل أطفال الدنيا، وعن بداية عمله فى السينما فى فيلم «إمبراطورية ميم»، وكيف عارض والده فى البدء وكيف شجعته هى.
رحلت الجميلةُ «زينب لطفى» التى كانت أمًّا روحية لى. كانت تتابع تطور علاج ابنى وتقول له: «هات ماما وتعالى يا عمور، عاملالك كوسة بشاميل». ونزور البيت الأنيق الذى ترى فى أركانه صورًا بالأبيض والأسود للكابتن «صالح سليم» وابنيها «خالد وهشام». تشير إلى طفليها فى الصور وتقول بشغف أم بصغارها: «عمرك شوفتى أطفال بالحلاوة دى؟!»، ثم تنظر إلى ابنى «عمر» وتقول له: «لوحاتك حلوة جدًّا يا عمر، أنت فنان عالمى».. ثم تمدُّ يدها على طاولة مجاورة وتلتقط كتابى «عُمر من الشرنقة إلى الطيران» وتقول: «كتابك جميل، كل يوم أقرأ منه فصلا، وأعيد وأزيد!».
كانت القراءةُ هى كل عالمها، تقرأ بالإنجليزية والفرنسية والعربية. وكانت حين تريد انتقاد أى ظاهرة مجتمعية لا تروق لها، تكتفى بتلك الابتسامة الشقية التى تجمع دفء الشرق بالأرستقراطية الملكية!.. عِشقها لمصر وتعلّمها فى مدارس الفرنسيسكان عمّقَ مصريتها وأصالتها، فكانت لا تكفُّ عن الحديث عن جمال مصر الذى لم تر له مثيلا فى كل الدنيا.
رحم الله إحدى جميلات مصر وجميلات قلبى.
نقلا عن المصري اليوم