هاني لبيب
دائمًا ما يحكم العديد من المثقفين والمفكرين على ما يحدث فى المجتمع من ظواهر مختلفة بصيغة التعميم. وهو خطأ منهجى وعلمى لأنه لا يمكن إطلاق أحكام عامة بصيغة «الجميع»، ولكن الأدق والأفضل صيغة «بعض».
ينطبق ما سبق كنموذج عملى على ما يُنشر ويُروج له على السوشيال ميديا. يكفى أن ينشر أحدهم صورة أو جملة أو تعليقًا أو قصة ليتم التفاعل معها سواء بشكل طبيعى مع افتراض حسن النية، أو بشكل موجه مع افتراض سوء النية لتحقيق أغراض محددة.. أبسطها إشاعة البلبلة وحالة من الجدل لما ليس له أساس من الصحة، وكأنها ظاهرة عامة، رغم أنها غالبًا ما تكون فردية. ولكن نجاح دولة السوشيال ميديا أنها تستطيع تعميم الظواهر الفردية بشكل من التضخيم والتهويل الذى يوحى بكوارث عظمى، وما يترتب على ذلك من جدل وسجال مجتمعى لا فائدة منه.
أعتقد تمامًا فى صحة ما سبق، ولكنى فى الوقت نفسه أشير إلى ملاحظة شبه ساذجة، وهى أن ما يُنشر على السوشيال ميديا هو غير معبر عن الواقع بنسبة كبيرة، وهو أمر حقيقى. ولكن فى الوقت نفسه هو مؤثر فى توجيه العديد من المتابعين الذين يعتمد مصدر معلوماتهم ومعرفتهم الوحيد على مختلف وسائل التوصل الاجتماعى والنيو ميديا (الواتساب والفايبر والتليجرام و..). ومع ملاحظة أن تلك الفئة يتم استغلالها وتوجيهها حسب الغرض من توجيه المعلومات بشكل محدد.
وللأسف تتجاوز تلك الحالة من التأثير مجرد القراءة إلى اتخاذ موقف سواء بالتعليق أو بإعادة النشر أو بالإرسال إلى مجموعات الأصدقاء والعائلات المغلقة. ومن هنا تبدأ الكارثة الحقيقية لأن تأثير ما يُنشر على النيو ميديا لتلك المجموعات المغلقة أصبح مصدرًا رئيسيًّا لتشكيل ذهنية أعضاء تلك المجموعات، خاصة العائلية التى تضم ربما أطفالًا ومراهقين وشبابًا، فضلًا عن نقل ما يقرأونه إلى الأصدقاء والمعارف، حسب فهمهم من جانب، وبغض النظر عن مدى قناعتهم من جانب آخر.
أنبه مما يحدث فى المجتمع من محاولة تديينه وتطييفه بشكل منظم جدًّا على المستويين المسيحى والإسلامى. وأحذر من محاولة ترسيخ الهوية الدينية على حساب الهوية الوطنية المصرية. وأرصد هنا ثلاثة نماذج مختلفة على ما سبق. أولها عودة ظاهرة الملصقات والكتابات ذات الدلالات الدينية المسيحية والإسلامية على التوك توك والميكروباصات وسيارات النقل، فى إشارة واضحة إلى دين صاحب وسيلة النقل، رغم وجود قانون يجرم ذلك، ولكنه يحتاج إلى تفعيل صارم. وثانيها القصة المنتشرة عن عامل الدليفرى الذى اطمأن أن الأوردر الذى طلبته إحدى السيدات.. سترتديه لزوجها فى المنزل، فشكرته وشكره زوجها على غيرته الدينية. وثالثها فكرة المجموعات الدينية المنتشرة الآن.. والتى لا تقبل الخلاف معها، وتضع نفسها فى مواجهة شرسة بين مَن يصنفون أنفسهم من أبناء البابا شنودة وأبناء القمص متى المسكين، وذلك باعتبارهما مدرستين مختلفتين فى الفكر والإيمان.
لن أختزل الحوار هنا فى صحة ما سبق أو غير ذلك لأنه سجال بغيض لا طائل منه. ولكن ما أحذر منه هو شيوع مناخ التشدد والتطرف والتعصب. هذا المناخ الذى يصل الهجوم فيه إلى حد الترهيب والتكفير وكَيْل الاتهامات للمختلفين والتشكيك فى أفكارهم، بل فى إيمانهم الدينى. ولا ننسى أن كل فريق يتعامل باعتباره وكيل السماء الحصرى على الأرض فى الحفاظ على الدين وحمايته.. فى شكل من أشكال استدعاء قضايا «الحسبة».
واجهت الدولة المصرية التطرف والإرهاب بشكل قانونى واضح، ولكن مازلنا نحتاج إلى التحرك فكريًّا وثقافيًّا لمواجهة تلك الحالة المتشددة المنتشرة فى العقل الجمعى المصرى. وهى مواجهة تحتاج إلى خطة مترابطة بين التعليم والثقافة والإعلام، وتجديد الفكر الدينى الذى هو أساس نشر التسامح والحوار وقبول الاختلاف والتعددية.
نقطة ومن أول السطر..
ما يحدث من محاولات استدعاء النعرات الدينية السوداء فى الحياة اليومية هو تهديد للهوية المصرية، التى يحاول البعض جاهدًا طمسها وتغييرها لصالح ثقافات بالية.. تخلى عنها أصحابها ومؤيدوها وممولوها، بعد أن روجوا لها فى بلادنا بشكل أكبر مما طبقوه فى بلادهم من الأصل، والغريب أن بعضنا لا يزال يدافع عنها، وينشرها، ويستدعيها كإطار مرجعى لتعاملاتنا وعلاقاتنا، والحكم من خلالها ليس فقط على أفكارنا، بل على نوايانا فى بعض الأحيان.
نقلا عن المصري اليوم