نادر نور الدين محمد
حين خرج تقرير «آل جور» عن تغير المناخ عام 1993 لم يكن أحد يتصور أن العالم يتغير بسبب غاز ثانى أكسيد الكربون قليل التركيز في الهواء الجوى، ولكنه شديد الفاعلية ومحور العديد من الأنشطة في العالم، مثل صناعة المياه الغازية المبنية على ضخ غاز ثانى أكسيد الكربون في المياه المحلاة، كما أنه غاز خانق مع مثيله أول أكسيد الكربون كما في حالة التدخين أو التنفس في السيارات والتدفئة في الأماكن المغلقة. ساهم هذا الغاز أيضًا في تكوين مجموعة أملاح الكربونات والبيكربونات، والتى يطلق عليها أملاح ثانى أكسيد الكربون، ولها استخداماتها العديده في دبغ الجلود وإذابة الدهون، ومنها الجير، أي كربونات الكالسيوم بدرجاته المختلفة، وقلة ذوبانة، ويكون القاعدة الأساسية لتكوين الشعاب المرجانية التي ينمو عليها العديد من الميكروبات، وتعطيها الألوان الزاهية التي تجذب السياحة لمحبى الغطس.
ويعتبر غاز ثانى أكسيد الكربون واحدًا من تسعة غازات تسبب الاحتباس الحرارى، وأهمها معه الميثان وأكسيد النيتروز. ومن أهم سمات غاز ثانى أكسيد الكربون كونه من الغازات القليلة التي يزيد ذوبانها بانخفاض درجة الحرارة ويقل ذوبانه بارتفاعها، ومثال ذلك الطعم الجيد للمياه العذبة أو المياه الغازية الباردة لزيادة نشاط وذوبان هذا الغاز بسبب البرودة، ولأن المياه العذبة مثل نهر النيل يسود فيها الأملاح شحيحة الذوبان مثل كربونات وبيكربونات الكالسيوم والمغنسيوم، بينما يُفقد هذا الطعم المستساغ في المياه الساخنة والدافئة بسبب تراجع نشاطه أو ترسب أملاحه فيما يُعرف بظاهرة «براد الشاى Tea Kittle Phenomena»، أي تكوُّن اللون الغامق على جدار براد الشاى بسبب غلى الماء العذب لعمل الشاى، ومثله تكوُّن اللون الغامق في منطقة غلى الماء في أوانى الطبخ بسبب ترسب أملاح الكربونات بارتفاع درجات الحرارة أو تكلس فتحات رش المياه في المكواة بالبخار أو تكلس أقطاب الكهرباء في غلايات المياه الكهربائية بسبب ترسب الكربونات. لهذا الأمر كان خلق الكون بإحكام في وجود القطبين المتجمدين الشمالى والجنوبى لتكون إحدى رئات كوكب الأرض التي يذوب فيها غاز ثانى أكسيد الكربون وتخلص الكوكب منه، وقد رصدت الهيئة الدولية للأرصاد الجوية ذوبان ما بين 125- 250 جيجا طن من جليد القطب الجنوبى عام 2021. وبالمثل كانت الرئة الثانية هي المياه المالحة للبحار والمحيطات والتى تمثل 71% من مساحة الكوكب، حيث خلق الله المياه ذات حرارة نوعية مرتفعة وجعلها لا تسخن بسهولة وتبقى دائمًا منخفضة الحرارة رغم أنها تمتص نحو 95% من الحرارة الواصلة إلى كوكب الأرض من الشمس، والتى لو تعرضت لها المعادن والصخور لسخنت فما بين 10- 20 ضعفًا مثل سخونة المياه، أي أن سعرًا واحدًا يرفع درجة حرارة المياه درجة واحدة مئوية، بينما يرفع درجة المعادن أكثر من 10 درجات مئوية ونشعر بها عند سخونة رمال الشاطئ، ثم برودة مياه البحر للمصطافين. الحرارة المنخفضة للمياه المالحة تجعلها الرئة الثانية لكوكب الأرض للتخلص من غاز ثانى أكسيد الكربون حيث تمتص كميات كبيرة من هذا الغاز، ولذلك كان خلق المياه ذات حرارة نوعية مرتفعة حتى لا ترتفع حرارتها بسهولة وحتى لا تفقد وظيفتها في امتصاص الغاز القاتل إذا ما ارتفعت حرارتها. ليس ذلك فقط بل إن غاز الأكسجين يقل ذوبانه في المياه بارتفاع درجة حرارتها ويزيد بانخفاضها، وهو الأكسجين الذائب اللازم لحياة الأسماك والكائنات البحرية التي تهلك بانخفاض تركيزه في المياه التي تعيش فيها. لذلك تحدث ظاهرة نفوق الأسماك في مياه الخليج وبعض المناطق، ومنها فرع رشيد في نيل مصر، ليس بسبب الملوثات التي تُلقى فيه ولكن بسبب جذب الملوثات العضوية للميكروبات المحللة لها، والتى تتكاثر سريعًا أثناء تحللها للمخلفات مستهلكة الأكسجين الذائب في المياه السطحية، وبالتالى يحدث نقص كبير في تركيز الأكسجين يؤدى إلى اختناق الأسماك وموتها.
لهذا السبب انتفض العالم عندما وصلت درجة حرارة مياه المحيطات إلى 21 درجة مئوية بما سيقلل من امتصاصها الغاز القاتل وتخليص كوب الأرض منه. ولأن الكميات المنطلقة من هذا الغاز زادت جدًا بسبب النشاط البشرى، خاصة في قطاعات الصناعة والنقل والمواصلات وتوليد الطاقة والثروة الحيوانية والزراعة، وأصبح على مياه البحار والمحيطات امتصاص كميات مضاعفة من هذا الغاز بما يتسبب في قتل الميكروبات التي تضم أنواعًا مختلفة من الفطريات والكائنات الدقيقة التي تنمو على الشعاب المرجانية الجيرية وموتها فيعود لون الشعاب المرجانية إلى لونها الأبيض الطباشيرى. وبالمثل أيضًا يؤدى زيادة امتصاص المياه المالحة للغاز إلى العديد من التأثيرات على الأسماك ونقص غاز الأكسجين الذائب في المياه فتبدأ الأسماك في النفوق لخلل كثير من وظائف أجهزة الأسماك وجلودها، ولذلك أصبح الصيد المفتوح في البحار والمحيطات لا يوفر أكثر من 20% من أسماك العالم، وأصبح استزراع الأسماك يمثل 80% من الإنتاج العالمى بسبب نقص أعداد أسماك البحار والمحيطات وليس الصيد الجائر، حيث تضع الأسماك ملايين البيض تحسبًا لما يتم صيده منها وتعويضه بعدة أمثال. هو نفس الحال في حتمية صرف مياه زراعات الأرز كل أسبوع على الأكثر لأنها تمتلئ بغاز ثانى أكسيد الكربون الناتج من تنفس جذور الأرز وميكروبات التربة ونضوب الأكسجين الذائب فيها، ومثلها أحواض الأسماك المنزلية وحتمية وجود مضخة تجديد الهواء بها.
الأمر نفسه في الدلتاوات المنخفضة للأنهار وغرق حواف دول الجزر المحيطية، حيث تنحدر الأنهار العالمية نحو مصباتها في المحيطات والأنهار حتى تتساوى في منسوبها معها عند المصب، وفى حال ارتفاع مستوى سطح البحار فإن العكس يحدث وتبدأ المياه المالحة في اقتحام مجرى الأنهار والأراضى الزراعية التي تحيط بها بسبب ذوبان جليد القطبين، ومن الغريب التصور أن مستوى البحار ينتظر فترة من الزمن لوصول مياه الجليد المذاب إليها، وكأنها أنهار تسير بالانحدار من المرتفع إلى المنخفض وليس أنها جميعًا عند منسوب صفر والمثبتة بظاهرة الأوانى المستطرقة بتساوى سطح الماء فيها مهما اختلفت سعة الأنابيب التي تحويه، أو أننا عندما نضخ مياهًا في مدخل حمام سباحة كبير فإنها تستغرق وقتًا حتى تصل إلى نهاية الحمام!! وليس أنه أمر فورى أو نتصور أن القطب الشمالى أعلى من مستوى البحر المتوسط لذلك ستنحدر المياه الذائبة منه إلى المتوسط، مثلما ظن القدماء أن مستوى سطح البحرين المتوسط والأحمر ليسا متساويين وعند حفر قناة السويس ستتدفق المياه من أحدهما للآخر لأن الأرض كروية إلى أن ثبت خطأ هذا الظن، وأن منسوب البحار واحد، أو أن نهر النيل قبل السد العالى كان يُلقى بنحو 22 مليار م3 أثناء الفيضان في البحر المتوسط، وأن هذا يستغرق وقتًا حتى تصل هذه المياه إلى مضيق جبل طارق! فالبحار ليست أنهارًا ذات انحدار تتدفق فيها المياه في اتجاه الانحدار. ولهذا أنفقت مصر ودول الدلتاوات والسواحل المنخفضة مليارات الدولارات لوضع كتل أسمنتية ضخمة لرفع مستوى شواطئها لصد ارتفاع مستوى سطح البحر ثم التعامل مع اقتحامها للمياه الجوفية العذبة بعد أن أصبحت بعض المبانى في نهاية فرع رشيد داخل البحر المتوسط بنحو 20 مترًا حاليًا.
ومن جميل الخلق أن جعل الله لنا الرئة الثالثة للكوكب وهى الغابات مستديمة الخضرة، والتى تمتص غاز ثانى أكسيد الكربون وتضخ الأكسجين أثناء تكوينها لونها الأخضر، أي ثلاث رئات، ومعها أيضًا الترب الزراعية كرئة رابعة للتخلص من هذا الغاز قليل التواجد ولكنه عظيم التأثير.
نقلا عن المصرى اليوم