عاطف بشاي
العبارة السابقة وردت على لسان مخرج أفلام مقاولات هابطة.. ومسلسلات تلفزيونية متواضعة المستوى، وكان يقصد بها التنصل من مسؤوليته الفنية في توجيه الممثل إلى التعبير المرئى الملائم لتجسيد الشخصية الدرامية بأبعادها الاجتماعية والنفسية المختلفة تجسيدًا يتسق مع البناء الدرامى ومضمون السيناريو وخلاصة الرسالة التي يوجهها المؤلف إلى المتلقى.. وقد أوقعنى حظى السيئ مع ذلك المخرج بالمصادفة حينما ألح علىَّ منتج بأن يضمنا لقاء مبدئى معه في مكتب المنتج الهدف منه إقناعى بالتعاون معه ليخرج لى مسلسلًا كتبته، ووافق المنتج على أن يقوم بإنتاجه.. وفى الاجتماع الموعود سأله عن ترشيحاته للممثلين الذين ينوى اختيارهم لتجسيد الأدوار.. اعترفت مندهشًا متسائلًا كيف لمخرج لم يقرأ السيناريو، وبالتالى لم يدرك طبيعة شخصيات العمل وسلوكهم والأحداث والمواقف التي يعبرون عنها.. وحجم وأهمية أدوارهم أن يرشح هؤلاء الممثلين؟!، فإذا بالمخرج يهتف مطمئنًّا مشيرًا إلى نفسه: «ما تقلقش يا أستاذ.. أنا قرفتى حلوة.. خير إن شاء الله»، وانبرى سريعًا يعدد أسماء نجوم ونجمات كبار في كل الأدوار، حتى الثانوى منها.. فدهش المنتج، وسأله عن سبب تلك المغالاة التي لا تتفق والميزانية المرصودة للعمل.. فقال له بمزيج من السخرية والتفكه.. أنا مخرج ضعيف الشأن، وأحتاج إلى مساندة النجوم.. والتمثيل في النهاية مسؤولية كل ممثل.. ثم انفجر في ضحك صاخب.
المدهش في الأمر أن هذه العبارة المعيبة والخاطئة صارت بفعل التكرار والإلحاح اكليشيهًا شائعًا.. وشعارًا مقيتًا يتردد بشكل دائم في الأوساط الفنية وكأنه قول مأثور لـ«أرسطو» أو «أينشتاين» أو كأنه خلاصة الخلاصة ودستور الفن السابع والدراما التلفزيونية.. وهو ما يدفعنا إلى توضيح عدة أمور كنت أتصور أنها من البديهيات المعروفة.. أولاها أن الفيلم السينمائى الجيد والمسلسل التلفزيونى المتميز يتحققان نتيجة لسلسلة من عمليات الإبداع الفنى ابتداء من وجود الفكرة في عقل المؤلف أو كاتب السيناريو حتى يتم عرض الفيلم أو المسلسل على الجمهور، فمما لا شك فيه أن كيفية اختيار مجموعة الممثلين تُعد من أهم الأمور وأصعبها وأكثرها إثارة للمشاكل في عملية الإخراج لأن التطابق الكامل بين الممثل المختار والشخصية التي عليه أن يؤديها أمر نادر الحدوث، بل هو في حكم المستحيل، ولعل ذلك هو ما جعل الروائى يتمتع بحرية أكبر من تلك التي يتمتع بها المؤلف وكاتب السيناريو والحوار في خلق شخصياته دون أن يضطر إلى تجسيدها من نماذج حية.. كما أن عملية التطابق المستمرة التي يُجريها المتفرج بين نفسه وبين الممثل تزيد من المسؤولية الملقاة على عاتق المخرج والممثل معًا.. فمشاعر المتلقين التي تنجذب إلى- أو تبتعد عن- الممثل في حركة مستمرة تترجم بطريقة حاسمة ومؤثرة إلى قدرة الشخصية الدرامية على التأثير من خلال مجموعة الأفكار والأحاسيس المطلوب إبرازها في الفيلم أو المسلسل.
ولأن المتفرج لا يمكنه أن يرى إلا ما يريد له المخرج أن يراه لأن الرؤية تتم من خلال عين الكاميرا التي تحدد زاوية التصوير وحجم اللقطة، على عكس المتفرج في المسرح الذي يتمتع بحرية النظر في كافة الاتجاهات، فإن لقطة قريبة على وجه ممثل غير كفء لدوره في لحظة درامية مهمة كفيلة بأن تنسف المعنى العام للفيلم بأكمله.
وفيما يتصل بمسؤولية المخرج في توجيه الممثل يتضح ذلك من خلال ما يسمى «الديكوباج»، الذي يصممه المخرج، والذى يحتوى على حركة الممثل وحركة الكاميرا وزاوية التصوير وحجم الكادر وخطة الإضاءة المرتبطة بالظل والنور.. ثم استخدامه أهم أدواته الإبداعية، وهى رؤيته البصرية والدرامية للانفعالات التي يؤديها الممثل في المشاهد المختلفة التي يجسدها.. والمخرج يقوم بشرحها بدقة للممثل بما يتماهى مع المعنى المطلوب إبرازه من خلال ملامح الوجه وتعبيراته المناسبة.. الالتفات.. الإطراقة.. الصياح.. الهمسات، الانفعال ودرجته وتصاعده وصولًا إلى ذروة الأحداث.. لحظات الصمت والسكون.. الأداء الجسدى وهكذا.
وفى هذا الشأن ليس سرًّا أن نؤكد أن تألق الممثل أو الممثلة في الأداء المبهر المعبر يختلف من خلال التعامل مع المخرجين الموهوبين، الذين يهتمون اهتمامًا بالغًا بمفردات أدواتهم الفنية المتصلة بالأداء العظيم مع مخرج بعينه، ويخفقون إخفاقًا واضحًا مع مخرج آخر من نوعية حاملى شعارات «التمثيل مسؤولية الممثل».
نقلا عن المصرى اليوم