مدحت بشاى
يبدو أن أبناء كوكب الأرض بشكل عام وأبناء عالمنا العربى والدول النامية بشكل خاص، قد باتوا جميعًا محل استهداف تحديات مواد وأشكال فى منتهى الخطورة تشاركوا معًا فى إعدادها وصياغتها وصناعتها ليدمروا بها أنفسهم وأوطانهم بكل انسحاق وتبعية وانصياع بشكل انجذاب مغناطيسى متسارع.
من بين تلك الآليات والأدوات الخطيرة ما بات يشكله الفضاء الإلكترونى من مخاطر بعد تحولها من وسيلة موثوق بها كان المأمول استثمارها فى التغيير، إلى آليةــ للأسف ــ لتسويق الوهم وصناعة الميوعة الثقافية، السياسية والعلمية، وإلى منصة توزع فيها الألقاب والصفات والتسميات بتضخم يبعث على الغثيان وسريالية تصيب مدمن هذه البرامج بالتوهان والاستعلاء الشكلى، إذ أصبحت صفات الأستاذ والخبير والسياسى والزعيم والمناضل والصحفى توزع بسخاء بين مجموعات الأصدقاء والمصالح الصغيرة جدًا وذوى القربى..
ويبدو أننا كنا نعانى من حالة الميوعة الثقافية وعدم إدراك ما نصنعه بذواتنا منذ زمن مصطفى النحاس باشا ومطرب الأجيال الموسيقار محمد عبدالوهاب .. يقول الخبر المنشور فى زمانهما:
«أنا ما بسلمش على المايعين يا أفندي».. جملة قالها مصطفى النحاس باشا للفنان محمد عبدالوهَّاب لما راح فى مرة يسلم عليه.. ساعتها عبدالوهاب تمالك نفسه من الحرج وسأله: ليه يا باشا؟.. رد عليه «النحاس باشا» وقال له إزاى يا أفندى تقول فى أغنيتك المايعة: «مسكين وحالى عدم من كتر هجرانك يا اللى تركت الوطن والأهل علشانك».. وطن إيه يا أفندى اللى تتركه وتهجره عشان واحدة ست؟
وبالفعل الأغنية مُنعت من الإذاعة بعدها، ويقول عبدالوهاب بعد هذه الواقعة: تأملت وتفهمت كلام الباشا وبعد توقف وحزن وبكاء لفترة قررت أن يكون طابع كلماتى وألحانى فى موضوع كهذا كريمًا عفيفًا، دموعه مكبوتة فى كبرياء..
ولكن بعيدًا عن الميوعة الغنائية، كان المطرب الشعبى محمد عبدالمطلب يغنى «بتقول وتعيد لمين وبتشكى لده وده.. الناس المغرمين مايعملوش كده دول مهما تألموا بيداروا ويكتموا ولا يوم يتكلموا ويشمتوا العدا.. الناس المغرمين ما يعملوش كده.. مخلص أنا وأمين وأنت أمرك عجيب»..
أما الآن فقد تجاوز بعض مشاهير أهل المغنى فى زماننا تلك الأشكال من الميوعة اللفظية والمعنوية، إلى الميوعة المادية التى تنال من كل أشكال الوقار التى قد يصعب معها التأكيد على مظاهر الرجولة والأنوثة بعد أن قرر الرجال ارتداء «البلوزات» الشفافة والشبيكة الحريمى، بل ومن قرروا الظهور عرايا الصدور ويمارسون فى بعض الأحيان الرقص على طريقة «روبى» الأنثوية .. أما نجمات زماننا فقد قررن حذف البطانة من كل جيبات أزمنة الوقار التليدة والاكتفاء بنصف «بلوزة»، وعندما كانوا يُسألن عن مساحات الجرأة والبكاسة كان الرد الجاهز أن الله منحنا الكثير من النعم فلماذا لا نتمتع بها؟.. ويرددن بكل فخر «أما بنعمة ربك فحدث»!!
يحدث هذا، بينما الفن والفنان الحقيقى مشغول دائمًا بالبحث عن الجمال، حتى لو كان هذا الجمال غير مدرك بين موجودات وعناصر اعتدنا وجودها على مقربة يومية من عيوننا، ولا نرى فيها أى نوع من الجاذبية، والأعمال الفنية هى ما تدفعنا إلى تذوق الجمال الطبيعى وإلى الإحساس بالحياة الإنسانية، بل إن كثيرًا من المشاعر التى تجرى بباطن نفوسنا قد لا نلتفت إليها لولا أن تفجرها فينا الأعمال الفنية، بل يمكن أن نقول إنه لو لم يتغن شعراؤنا بالحب أو بالوطنية ما انتبهنا لحقيقة مشاعرنا بهذه الانفعالات، ولربما تجرى فى باطن شعورنا انفعالات أخرى لا نعى طبيعتها ولا نعرف حقيقتها، ولكن حين يجسدها الفن عندئذ فقط نتعرف على طبيعة أنفسنا، فالفن يخلق موجودات أشد جمالًا وتأثيرًا فى النفوس من العالم الواقعى، ويرينا الفن الأشياء والحياة والإنسان أوضح وأشد تأثيرًا مما نراها فى الواقع المحيط بنا.
ونحن على عتبات جمهورية جديدة لا بد أن ندرك الأهمية الكبرى لرسالة الفن الحقيقى والمبدع والمعبر عن هوية الأمة وخصوصيتها الثقافية والحضارية بعيدًا عن الميوعة والمسخ والتفلت، لأن الفن يمثل اللمسة الحضارية التى يتشارك فى صياغتها أبناء هذه الأمة على ملامح المشهد الفكرى والثقافى والجمالى للحضارة الإنسانية فى حالة فيض عبقرى وإلهام إلهى يعبر به ومن خلاله الفنان عن روح الأمة ووجدانها وعبقريتها وذاكرتها الثقافية والتاريخية عبر قواعد وقوالب فنية وجمالية أصيلة ومتجددة ومشبعة بروح التراث وهموم وأحاسيس مواطنيه..
لا بــــد أن نتشارك جميعًا فى القيام بعمليــــة «ريستــــارت»، فإعادة التشغيل بقوة وبحزم وبدون تردد وتلعثم لإكمال تلك الإنجازات العبقرية لدولة 30 يونيو بات ضرورة ، فقد انتهى زمن الميوعة السياسية المترددة عن اتخاذ القرار..
نعم، فالتغيير قادم وتوسعة اختصاصات وصلاحيات الإرادة الشعبية ستكون نتيجة حتمية للتعامل مع تبعات تلك الصراعات التى تدور فى المنطقة، ولهذا نحن بحاجة للاستعداد لهذه المرحلة من خلال بيئة تهيئ مساحة اللعب النظيف والممارسات الرشيدة كى نفسح للإرادة الشعبية مكانًا بعد أن توافقنا فى الحوار الوطنى على الكثير من التوجهات بشأن تصويب الخطاب الدينى والثقافى والإعلامى والاجتماعى، ولعل ما حدث على طاولة الحوار الوطنى مؤخرًا حول التوافق على مادة هامة فى الدستور تطالب بإنشاء مفوضية لعدم التمييز الدينى لخير دليل أننا بِتنا على مقربة من تحديد أهداف وطن ينشد بنوه العدالة ونشر ثقافات التنوير ودعم قيم التقدم.
نقلا عن الدستور