القمص أنجيلوس جرجس
احتفلنا بعيد السيدة العذراء، وهي شخصية فريدة جداً في تاريخ البشرية ليس لأنها أم السيد المسيح فقط ولكنها أيضاً الوحيدة في جنس البشر التي تجمع بين أنها أم وعذراء، وهي حسب النبوة التي أرسلها الرب إلى إشعياء النبي وقال له: "ها العذراء تحبل وتلد أبناً" (إشعياء 7: 14). لذلك كان اليهود ينتظرون مجيء هذه العذراء التي ستحبل بالمسيا أي المخلص.
ولدت القديسة مريم بمدينة الناصرة من أب يدعى يواقيم وأم اسمها حنة وكانا عاقرين وكبرا في العمر ولم يرزقا بأولاد. وكان هذا في الفكر اليهودي أنذاك يعني أن اللـه غاضب عليهما وأنه منع عنهما البركة التي أعطاها للإنسان حين قال: "باركهم اللـه وقال لهم أثمروا وأكثروا واملاؤا الأرض" (تكوين 1:.
وكان تدبير الرب أن يعطي يواقيم نسلاً خاصاً بمعجزة، فظهر إليه الملاك وبشره بميلاد مريم. وحين أخبر زوجته اتفقت معه أن تكون نذيرة للرب. وبالفعل حين بلغت الثالثة من العمر حملاها إلى بيت الرب وعاشت في الهيكل حتى سن الرابعة عشر في مكان إقامة النذيرات والأرامل المنقطعات للعبادة. وتعلمت في تلك الفترة كيف تصير كلها للرب تصلي وتصوم وتخدم الرب.
وحسب التقليد اليهودي يجب أن تترك الهيكل عند هذا السن، ولكن كانا والداها قد توفيا فبحثوا وهي في سن الثامنة في عائلتها عمن يمكنه أن تعيش معه فوجدوا شيخاً كبيراً وهو يوسف النجار وهو من نسل داود النبي ويقال إنه كان له من العمر ثمانون عاماً. وكان لابد أن يكون هناك علاقة رسمية حتى يأخذها إلى بيته فخطبت له.
وفي بيته ظهر لها ملاك الرب وبشرها بميلاد السيد المسيح، ولكن العذراء اضطربت لأنها قد نذرت بتوليتها فكيف تحبل وتلد فرد عليها الملاك وقال لها: "الروح القدس يحل عليك وقوة العلي تظللك" (إنجيل لوقا 1: 25). وكانت يمكن أن تجزع من الفكرة فكيف ستواجه المجتمع اليهودي الذي يرجم أي فتاة تحبل دون زواج وكيف ستواجه يوسف النجار الشيخ الكبير الذي يأويها في بيته ولكنها بكل قوة الإيمان قالت: "هوذا أنا عبدة الرب".
وبهذه المناسبة نحن المسيحيون لا نؤمن بأن العذراء تحمل أي صورة من الألوهة فكما قالت: "هوذا أنا عبدة الرب" وقالت مرة أخرى: "تبتهج روحي باللـه مخلصي"، وكانت لها الإيمان القوي أن الذي صنع معجزة الحبل بالروح القدس قادر أن يدير كل أمورها، وبالفعل حين شك فيها يوسف النجار ظهر له ملاك الرب وقال له: "الذي حبل به فيها هو من الروح القدس" (إنجيل متى 1: 20)، وقد آمن هو أيضاً لأنه كان باراً وقديساً.
وبالرغم من قوة الرب معهما وظهورات الملائكة ولكنهما كانا فقراء جداً حتى أن العذراء حين جاءت لتلد في بيت لحم لم تجد مكاناً إلا مذود للبقر ولم تتبرم ولم تتكبر وتقول لماذا لم تدبر مكاناً أفضل وكيف تلد السيد المسيح في هذا المكان ولكنها كانت عميقة في إيمانها متضعة في شخصها واحتملت الفقر بشكر.
بل زاد الأمر مرارة حين أمر هيرودس الملك أن يموت الطفل المولود لأنه عرف من المجوس الذين جاءوا من بلادهم بناء على ظهور نجم يخبرهم بميلاد ملك عظيم، وما أن سمع هيرودس أنه ملك حتى أمر بأن يقتل كل أطفال بيت لحم. فظهر الملاك مرة أخرى للقديس يوسف النجار وقال له: "خذ الصبي وأمه واهرب إلى مصر" (إنجيل متى 2: 13).
وكان شيخاً كبيراً ولا يقوى على هذه الرحلة الشاقة وخاصة أنه فقير فلم يستطع أن يدفع ثمن السفر المريح في سفينة ينزل بها إلى الإسكندرية ثم يأخذ النيل إلى بابليون حيث يريد أن يهرب عند مكان تجمع اليهود هناك. فاضطر أن يأخذ الطريق البري وما أصعب تلك الطرق وخاصة معه العذراء الفتاة الصغيرة ومعها الطفل يسوع. وأما مريم العذراء فكانت دائماً تحتضن الطفل يسوع وسط كل هذه الأتعاب لتكون أيقونة الأمومة لكل البشرية. ولم تكن تلك الرحلة إلى مصر أو في مصر مريحة بل كانت تهرب من الجنود الذين أرسلهم هيرودس خلفها لقتل الطفل يسوع من مكان إلى مكان حتى استقرت في دير المحرق بأسيوط في جبل قسقام.
وظلت في مصر ما يقرب من أربعة سنوات إلا شهرين باركت العائلة المقدسة مصر، وأحبت العذراء بلادنا وأحببناها جداً حتى صارت أماكن سكناها هي والسيد المسيح ويوسف النجار أماكن بركة لبلادنا ويأتي كل العالم ليتبارك منها أيضاً.
ففي ذاكرة العذراء تسكن بلادنا لأنها خرجت من بيت لحم إلى مصر ثم إلى الناصرة، فهي لم تعرف بلاداً سوى وطنها ووطننا حتى تصير وطنها الثاني فعلاً. لهذا نجدها تظهر كثيراً في كنائسنا وباركت مصر بظهورها في الزيتون في الثاني من أبريل عام 1968م، وهو ظهور فريد جداً في تاريخ ظهورات العذراء في كل العالم لأنه كان يومياً لمدة شهور عديدة. وكانت تظهر هي والعائلة المقدسة لتخبرنا بأنها لم تنسى السنوات التي قضتها هنا في مصر.
وكان لهذا التوقيت أهمية كبرى إذ إننا كنا في حالة يأس شديد بعد هزيمة الجيش في سيناء، وكان العالم كله ينظر إلى مصر بأنها قد كسرت ولم تعد لها قائمة، فكان الظهور القوي للعذراء بمثابة رد اعتبار روحي وبركة لبلادنا. فالعالم كله صار يتكلم عن مصر من جديد بعظمة، وصارت مصر في دائرة الضوء.
وبالفعل استعادت مصر قوتها وعادت وانتصرت في حرب الاستنزاف ثم حرب أكتوبر، ولا تزال العذراء حبيبتنا كلنا في قلوبنا وبيوتنا، وتشفع في بلادنا التي أحبتها جداً، ولم تنسى سنوات عاشت فيها كانت بلادنا أحضان تحميها، وأرضنا ثماراً تشبعها، ونيلنا مياه ترويها.
القمص أنجيلوس جرجس