عاطف بشاي
أَيْنَ فِى المَحْفِلِ مَىٌّ يَا صِحَابْ؟/ عَوَّدَتْنَا هَا هُنَا فَصْلَ الخِطاب/ عَرْشُهَا المِنْبَرُ مَرْفُوعُ الجَنَابْ/ مُسْتَجِيبٌ حِيْنَ يُدْعَى مُسْتَجَابْ/ الحديث الحلو واللحن الشجِىّ/ والجبين الحر والوجه السنِىّ/ أين ولَّى كوكباه؟، أين غاب؟/ رحمة الله على «مىٍّ» خصالًا/ رحمة الله على «مىٍّ» فعالًا/ رحمة الله على «مىٍّ» جمالًا/ رحمة الله على «مىٍّ» سجالًا.

الأبيات السابقة نظمها الأديب والشاعر والمفكر الكبير «عباس العقاد»، ضمن قصيدة طويلة في رثاء محبوبته الأثيرة «مى زيادة»، في حفل تأبينها، في مقر دار الاتحاد النسائى، الذي كانت تترأسه «هدى شعراوى» 1941، ولعل القصيدة من أجمل ما جادت به قريحته الشعرية، التي تقطر أسى شفيفًا وعاطفة جياشة وصدقًا نبيلًا وحزنًا طاغيًا وتمجيدًا وافرًا لإنجازاتها الأدبية الباهرة.. وقد كان حبه لها قد نشأ وترعرع في صالونها الأدبى، الذي كانت تقيمه في منزلها كل ثلاثاء، منذ عام 1912، لمدة عشرين عامًا.. ويضم قمم الأدباء والمفكرين والشعراء في ذلك الوقت، وعلى رأسهم «لطفى السيد» و«خليل مطران» و«طه حسين» و«مصطفى صادق الرافعى» و«حافظ إبراهيم» و«أحمد شوقى» و«زكى مبارك» والشيخ مصطفى عبدالرازق.

كان هذا الحب فياضًا باللهفة والحنين والاشتياق والوله والولع والغيرة، وقد عبر عن هذه الغيرة حين قال لها إن قلبها مثل «نادى محمد على» لكثرة ما يتردد عليه من عظماء في ندوة الثلاثاء.. وطلب منها أن ينفرد بها في منزلها في غير يوم الثلاثاء، فاستجابت في تحفظ، تعففت فيه من الاقتراب الجنسى معه.. واكتفت برومانسيته الخفاقة.. وكانت الخطابات المتبادلة بينهما تكشف عن الكثير من وهج وعذوبة وعمق ورهافة المشاعر الرومانسية.. وقد كتبت له في أحد هذه الخطابات: «لماذا تكتب لى أنتى معبودتى يا (مى).. وليس (أنتِ) معبودتى بكسر التاء، فأجابها: يعز علىَّ كسركِ حتى في اللغة.. لكنه للأسف كسرها وصدمها صدمة عنيفة حينما اكتشفت خيانته لها مع (سارة)، فذهبت إليه في مكتبه بالجريدة التي كان يعمل بها.. وأعادت له رسائله.. فبكى بين يديها طالبًا المغفرة، ولكنها أبت، وانصرفت في كبرياء».

أما «سارة»، التي رصد علاقته بها في روايته الفريدة والوحيدة، فقد كانت على النقيض من «مى» متحررة لعوبًا.. حيث عانى «العقاد» معها من شكوكه وعذاباته المضنية.. وطلب من شاعر شاب من مريديه في رعونة العشاق مطاردتها وملاحقتها ومراقبتها أينما ذهبت.. حتى توصل إلى حقيقة صدق هواجسه.. وأسفرت مراقبته عن اكتشاف أنها تخونه مع آخر، فأنهى علاقته بها في لقاء عاصف معها.

المغامرة العاطفية الثالثة للعقاد كانت مع النجمة الشهيرة «مديحة يسرى»، وقد ترددت في شبابها قبل أن تصبح ممثلة معروفة على صالونه التاريخى في منتصف الأربعينيات، والذى كان يعقده بمنزله بمصر الجديدة.. حيث تسلم الراية من «مى زيادة» بعد وفاتها.. وكان الصالون يضم صفوة كُتاب عصر التنوير.. حيث تبلورت النهضة الأدبية الحديثة في عهد هؤلاء الكُتاب، الذين استناروا برسالة رواد عظام حظيت بهم أمتنا في النصف الثانى من القرن التاسع عشر، وكانت «مديحة يسرى» في ذلك الوقت فتاة صغيرة سمراء جميلة ممشوقة جذابة رقيقة في بداية علاقتها بالتمثيل، فهام بها العقاد غرامًا وعشقًا.. لكنه ترفع عنها بعد ذلك لرفضه الحاسم لرغبتها في أن تحترف التمثيل.. وطلب من صديقه الفنان «صلاح طاهر» أن يرسم لوحة يعلقها فوق سريره تمثل: «تورتة» يعف عليها الذباب تساعده على انتزاع حبها من قلبه فينساها.

الخلاصة أن المفارقة الواضحة التي يحتوى عليها السرد السابق تَصِم «العقاد» بالازدواجية الجَلِيّة والانقسام النفسى في تركيبته الشخصية.. ما يثير الدهشة البالغة، المتمثلة في سعيه إلى المرأة سعيًا حميمًا.. وإقباله عليها إقبالًا فائقًا.. وتهافته عليها تهافتًا بازغًا في هيامه وحبه.. وتلهفه إلى وصالها وإلحاحه في الارتباط العاطفى والجسدى بها.. ومناجاته لها في أشعاره وخطاباته.. وعذابه في فراقها وتحولها عنه.. وقد كان خلف الكواليس مغازلًا لا يُبارَى ومحدثًا رقيقًا عذبًا.. وفى نفس الوقت بدا في مقالاته وأحاديثه وكتبه ألَدَّ أعدائها، ينْقَضّ عليها بلا هوادة ذمًّا وتنمرًا.. يُهينها ويحط من شأنها ككائن إنسانى لا يرقى إلى المساواة بالرجل عقلًا وفكرًا وأخلاقًا، ويصفها بأنها مخلوق شهوانى، تتحكم فيه غرائزه لا عقله.

مفارقة أخرى يثيرها الكاتب الكبير «أنيس منصور»، في كتابه البديع «فى صالون العقاد كانت لنا أيام»، من خلال مواجهة معه يسأله: كيف أنك يا أستاذ تجاهر بالحب والعشق.. وبعد ذلك تكون لك كل هذه الدراسات الدينية العميقة «سلسلة العبقريات» و«الإعجاز في القرآن» والحجج التي تُبطل الادعاءات الكاذبة ضد الإسلام.. أي كيف يكون شاعر الغزل والعشق.. والشيخ من بعده في نفس الوقت أو بعض الوقت؟!.

يجيبه في بلاغة آسرة: إن الشاعر أو الفنان لا يستطيع إلا أن يكون إنسانًا.. ولا يستطيع إلا أن يبوح و.. وليس الشعراء أكثر الناس عشقًا، ولكنهم أقدرهم على التعبير عن ذلك.
نقلا عن المصرى اليوم