بسم الآب والإبن والروح القدس الإله الواحد أمين
عظة الاحد.... 20/8/2023..
القمص انجيلوس جرجس شنودة
إنجيل اليوم هو إنجيل تبعية مارمتي للسيد المسيح، وكان مار متي صورة من صور إمكانية تغير أي إنسان، وإمكانية دخول المسيح إلي قلوب حتي العشارين. و كان العشار في المجتمع اليهودي يعتبر شخص خائن للمجتمع و لأصدقائه وأقربائه، لأن العشار كان يعمل مع الدولة المستعمرة ( الرومان)، وكان يعمل لديهم ضد أصحابه وأقربائه، لأنه كان يحصل الضرائب منهم بصورة عنيفة، وله الحق أن يأخذ أي مال زائد، مادام إنه قد سدد الضرائب عن المقاطعة التي يعمل بها، لذلك كان العشار يعتبر خائناً، ودائماً كانوا يقولوا: ( العشارين والخطاة).
هذا الشخص الذي كان مشغولاً بالعالم، ومهموماً بكل ما هو مادي، تغير وصار العظيم والكارز مارمتي البشير، وكاتب البشارة المفرحة. كيف تغير؟ وكيف أستطاع أن يترك كل شئ، ويذهب خلف المسيح؟
"خرج المسيح فنظر عشاراً إسمه لاوي، جالساً عند مكان الجباية" (لو 27:5)
مكان الجباية: حيث موضع الظلمة والخيانة، ولكن ربنا يسوع المسيح بنظراته الثاقبة رأي قلب هذا العشار يمكن أن يسكنه، فقال له:
"إتبعني. فترك كل شئ وقام وتبعه" (لو 28:5)
لم يتناقش ولم يتجادل، كان في مكان الجباية حيث الأموال، والوثائق المالية، ولكنه ترك كل شئ وتبعه، ليس ذلك فقط، ولكنه صنع له وليمة عظيمة في بيته "وكان جمع عظيم من العشارين، وآخرين متكئين معهم" (لو 29:5)
الفريسين والكتبة لم ينظروا أن هذا العشار ترك كل شئ، وتبع المسيح، ولكن كانوا يشعروا أنهم قضاة ويحكموا علي الآخرين، فتذمروا كيف يأكل السيد المسيح مع العشارين والخطاة.
ولكن القضية الهامة: هل نسعي جميعاً لصنع مكان للملكوت بيننا؟ حينما نري الخاطئ يتوب هل نشعر بأن هذا مجد لله؟ وهل نشعر نحن أيضاً أن نقدم ونترك كل شئ؟
أحياناً يكون الخاطئ الذي يترك خطيته أعظم كثيراً من الذي لم يُحارب ولم يسقط ولم يتب، لأنه ترك شئ محبب عنده.
حينما نترك لأجله نجده، بل إنه يثمن جداً، ويرفع قدر الذين يتركون لأجله.
التبعية للمسيح تغير تلك القلوب الصادقة، التي تركت بحق، وليس من الخارج، التي تركت كل شئ، ولذلك صار مار متي أحد العظماء بين البشر لأنه "ترك كل شئ وتبعه" (لو 28:5) وإن كنا نمجد هذا العظيم، ولكن هناك مجد في قلوب كثيرين، يعرفها الله فقط، هناك كثيرين تركوا ولم يٌذكر عنهم شيئاً.
القضية المهمة حينما تري المسيح هل تستطيع أن تترك؟
حينما تصلي وتشعر بوجوده هل تستطيع أن تخرج من الصلاة، وقد أخذت قراراً بترك كل شئ؟
وأحياناً قرار الترك لا يكون دفعة واحدة، كل شئ قد تكون صعب، بينما كل شئ تسحق الشيطان.
أنظروا إلي الأنبا أنطونيوس حينما ترك كل شئ، صار العظيم أنبا أنطونيوس.
وكذلك أنبا بولا، وهؤلاء الذين تركوا قصوراً مثل ( مكسيموس ودوماديوس)، و (أنبا كاراس) صاروا عظماء.
لأن ترك الكل لأجله يجعلك في حضن المسيح بصورة قوية، بعمق. فهل تستطيع أن تترك لأجله كل شئ؟
وقد يكون هذا قرار فجائي أو سريع، وقد يكون بصورة متدرجة، فقد لا تستطيع أن تترك كل شئ، ولكن بجهاد مثلما قال بولس الرسول:
" ونحن ناظرين مجد الرب كما في مرآه نتغير إلي تلك الصورة" ( 2كو 18:3)
في كل يوم نجاهد كي نترك تلك الأثواب النجسة التي نلبسها، ننفض عنا تلك الترابيات التي لصقت بنا من العالم.
ولكن قرار الترك سواء القليل أو الكثير، يسبقه موقف ورؤية.
"عبر المسيح ونظر عشاراً" ( لو 27:5): رؤية، وشعر هذا العشار أن تلك النظرة أخترقت قلبه من الداخل.
هل تري المسيح حقيقة؟
وحينما تراه هل تتركه وتذهب في طريقك، أم أنك تغير كل شئ لأجله؟
الذي يؤمن بالمسيح لا يمكن أن يتجازوه. إذا آمنت أن السيد المسيح الذي جاء ليصلب عنك ويموت، كيف يمكن أن تعبر علي الصليب وأنت تراه ينزف دماه، ثم تذهب في طريقك، وتعيش في نفس خطاياك؟!!.
حينما تقابل المسيح و تكون صادق حقيقة، يدخل نور في قلبك، يغير كيانك، تشعر أنك قد أخذت قوة جديدة، تستطيع بها أن تغلب الشرير، لأن رؤية المسيح يتبعها أيضاً مشاعر حب، حينما قلت له عذراء النشيد:
"أخبرني يا من تحبه نفسي أين ترعي أين تربض عند الظهيرة" (نش 7:1)
قال لها: " إن لم تعرفي أيتها الجميلة بين النساء فأخرجي علي آثار الغنم، وأرعي جدائك عن مراعي الرعاة" (نش 8:1)
ليست لها إمكانية معرفة ولاخبرة ، قال لها: "أخرجي علي آثار الغنم" علي آثار الذين تركوا قبلك، الذين أحبوا، وقدموا كل شئ.
لذلك نضع في كنيستنا أيقونات القديسين، فحينما ننظر إلي أيقونة العذراء، نشعر بقيمة الإنسانية التي قدمت كل شئ، وحينما ننظر إلي مارجرجس، ومارمينا، وأبو سيفين، صاروا قديسين في الكنيسة، لأنهم أحبوا إلي الغاية، أحبوا حتي الدم.
هو قدم حباً مخضب بالدم، القصة التي لمسناها ورأيناها، لم تكن قصة عادية، ولكنه الإله تنازل وأتحد بإنسانية فاسدة، وقدم ذاته ودمه حباً في تلك الخليقة "هكذا أحب الله العالم حتي بذل إبنه الحبيب" (يو 16:3)
ويقول في سفر الرؤيا عن هؤلاء الذين أنتصروا: "لم يحبوا حياتهم حتي الموت" (رؤ 11:12).
كانت محبة هؤلاء هي العدل الذي لأجله يتجاوز فيه الله عن كل ماضينا وتاريخنا، لأننا حينما نحب حقيقة نبذل أيضاً، فيري هذا الحب يغطي كل صور الضعف التي في داخلنا.
يقول الفيلسوف بلزاك جملة لطيفة جداً:
" الحب الذي ليس هو كل شئ، لا شئ"
فالحب لا يمكن أن يكون شئ قليل، الذي يحب لأبد أن يحب من كل قلبه.
في الأدب الفرعوني:
"خلق الله الحب وبالحب خلق الكون كله، وبدون الحب لا يمكن أن يوجد الكون".
الإله خلق الحب لأنه منبع كل شئ، ومصدر كل شئ، وبالحب خلق الكون، وبدون الحب لا يمكن أن يوجد الكون، بدون أن تحب، لا يمكن أن يكون لك إيمان حقيقي، فالحب الباذل، والحب الذي يعطي كل شئ هو الذي يعبر عن إيمانك.
يعلمنا الأنبا باخوميوس قائلاً:
"هل تظن أن تقطيع الأعضاء وحدها هي الأستشهاد؟ بل أن تعب النسك، وإحتمال الآلام من إبليس، بل حتي الأمراض من يحتملها بشكر، فذاك هو الشهيد، وإلا فما الحاجة أن يقول بولس الرسول: من أجلك نمات طول النهار" (رو 36:8).
لا تظن أنك تحتاج أن تقدم نفسك شهيد لتبرهن علي حبك لله، ولكن إحتمال المرض هو إستشهاد وحب، وإحتمال الآلام، وتعب الخدمة، إحتمال عمل المحبة لأجل الآخرين أيضاً، يٌحسب لك عمل محبة لله.
يقول القديس كبريانوس:
"يتوج الله خدامه الذين أفكارهم لحياة الأستشهاد، فهو لا يريد دمائنا بل حياتنا"
فهو لا يريد أن يصفي دمائنا، ولكن أن نقدم حب حقيقي، حينما يكون المسيح هو محور الحياة وقوتها، ونورها، وهدفها، نستطيع أن نقدم كل شئ لأجله لأننا نحبه بالحق.
لإلهنا كل مجد وكرامة إلي الأبد أمين