مدحت بشاي
«إن الفرق بين الأدب الذى يتناول الحياة مباشرة، وبين الأدب الذى يتناول الأدب، مهما يظهر أنه فرق أساسى فهو فرق صناعى متكلف، فإن الأدب ينتج من أى شىء يهمنا فى الحياة، ولكن الشخصية هى واحدة من أهم الحقائق الرئيسية فى الحياة، ومن أكثرها تشويقًا وأعظمها شأنًا.. هكذا ينتج أن الناقد الذى يقوم بتفسير شخصية أديب كبير كما تتضح فى عمله وتفسير هذا العمل فى كل جوانبه المختلفة كتعبير عن الرجل نفسه، هذا الناقد يتناول الحياة تناولًا حقًّا مثل الشاعر أو المؤلف الذى يقوم هو بدراسة آثاره سواء بسواء..».
رأيت التذكير بتلك المقولة للكاتب والمفكر «أحمد أمين»، التى قد تناسب الحوار النقدى الذى نعرض له فى زمن انفتاح أهل الفكر والأدب على إنتاج بعضهم بتناول نقدى محترف بديع، ونأمل عودة هذه الحالة من التواصل الفكرى بما يدعم إثراء منظومة الإنتاج الفكرى والأدبى والنقدى.
عبر إحدى فعاليات نادى القصة، اختار د. طه حسين، قصة «هكذا خُلقت» للدكتور محمد حسين هيكل (الذى نحتفى بذكرى ميلاده هذا الأسبوع 20 أغسطس 1888 بعد قرن وربع القرن من الزمان) لتناولها بالنقاش والنقد.
وبدأ طه حسين نقده بقوله: «هيكل بارع فى هذه القصة، لا يتحدث فيها عن القلب والشعور وحدهما.. ولا يتحدث فيها إلى القلب وحده.. ولكنه يتحدث إلى كل هذه الملكات، وملكات أخرى غيرها!. يتحدث إلى السمع بهذا اللفظ السهل العذب النقى البرىء من التبذل والابتذال جميعًا.. والبرىء ـ مع ذلك ـ من التعقيد والتكلف.. ومن هذا التَّصنّع البغيض الذى مازال بعض الناس يشغفون به ويتورطون ويورطون غيرهم فيه.. ويتحدث إلى البعض بهذه الأوصاف البارعة لنجوم السماء حين ترسل سهامها المضيئة إلى الأرض.. وللشمس حين تغرب فتملأ كل شىء روعة وجمالًا..».
وفى زيارة قام بها الكاتب يوسف السباعى للدكتور طه حسين فاجأه العميد سائلًا: يا أستاذ يوسف.. هل قرأت قصة الدكتور هيكل «هكذا خلقت»؟!.. اعتذر يوسف للعميد بأنه لم يقرأها بعد.. وضحك طه حسين وأعاره النسخة الخاصة التى أهداها إليه المؤلف!.
كان يوسف السباعى قد أرسل للدكتور هيكل يدعوه إلى عضوية «نادى القصة».. وفى لقاء مصادفة بينهما فى مكتب إحسان عبدالقدوس، أبدى الدكتور السباعى دهشته من دعوته لعضوية النادى! وأنكر صلته بالقصة!.. فلما ذكّره «السباعى» بقصة «زينب»، اعتبرها الدكتور هيكل «نزوة شباب»، واندفاع صبا..
ثم يقول يوسف: ومضيت فى القراءة.. فحص المؤلف فى إنتاجه، يكسر من حدتها واندفاعها ثقل الإنتاج.. ووجدت خطاى تتثاقل.. ولم أجد فى حوادث القصة من التشويق والأحداث ما يدفعنى إلى العدو على صفحاتها.. ولم أحس فى صفحاتها حرارة الدعوة إلى البقاء معهم حتى أنتهى من أمرهم.. باختصار، لم تمسك القصة بخناقى.. ولم تشغلنى عما حولى.. بل جعلتنى أتنقل بين سطورها فى هوادة.. تشابه هوادة حوادثه.. وتؤدة مؤلفها ومبدعها!. لقد وجدت القصة تسجيلًا لتاريخ حياة فرد أكثر منها قصة.. وبدا لى أن المؤلف قد سُردت عليه القصة.. أو عاصرها ثم سطرها كما وعتها ذاكرته.. يستغل فيها الخامة التى عثر عليها فى حياة المرأة التى ضمّنها صفحات كتابه.
ولم يحاول المؤلف أن يشرك ذهنه فى تأويل.. أو تعليل.. أو استنكار لهذه العجائب التى أتت بها صاحبة القصة!، بل سردها المؤلف ببساطة.. وانتهى بها إلى الخاتمة التى سجلها فى القصة!. والمؤلف يقول فى مقدمة القصة إن بطلتها نسيج وحدها.. فهى إذن مخلوقة شاذة أمسكها المؤلف هراوة ضخمة من الغيرة والغرور.. ظلت تدق بها على رأس زوجها ـ الذى أحبته فى أول القصة ـ والمؤلف يرقب الضربات التى تهوى على الزوج بلا أى مبرر سوى الشذوذ.. والزوج الطيب ممعن فى الاستسلام حتى يتلقى آخر ضربة.. ثم يموت !.. يموت وهو يستغفر الزوجة!.
ويضيف يوسف السباعى متسائلًا: حقيقةً، إنها امرأة شاذة.. ولكن.. أين المؤلف؟ هل المفروض أن يطلق المؤلف بطلته الشاذة المخبولة طول الرواية لتطيح فينا بهراوتها بلا مبرر؟!.
ويذكر الكاتب الصحفى «عبد العزيز صادق»، الذى كان قد عرض تفاصيل تلك الندوة: «لا أريد التدخل مقارنًا بين رأى أستاذنا الكبير طه حسين فى قصة (هكذا خلقت) للأستاذ الدكتور محمد حسين هيكل، ورأى الصديق الأستاذ يوسف السباعى.. أريد أن أترك المقارنة لك أنت يا عزيزى القارئ..».
ويبقى السؤال: متى تعود للحركة النقدية تلك الحالة الرائعة للاشتباك الإيجابى مع كل إنتاج إبداعى جديد من جانب أهل الإبداع ورموزه بكل تلك الحرية فى الاختلاف وإبداء الرأى، وبتغطية إعلامية تثرى حالة الوعى النقدى عند شباب المبدعين وتدفعهم لمزيدٍ من المتابعة وقراءة كل جديد؟!.
نقلا عن المصري اليوم