د. سامح فوزى
إحدى ثغرات التربية العامة فى المجتمع هى عدم الاهتمام بالمبادئ النفسية، والقواعد السلوكية، والاكتفاء بالوعظ والإرشاد، مما يجعل الاضطراب حاضرا فى نظرة الناس لأنفسهم، وعلاقاتهم الاجتماعية. والدليل على ذلك شيوع حالات من العنف الظاهر والمستبطن فى العلاقات بين الناس، لأتفه الاسباب، وبين أقرب الأقارب، فضلا عن تراجع السلوك على مستوى الشارع، الذى بات يعانى صورا متعددة من الانفلات والزحام وغياب التنظيم. وهناك شكوى باتت شبه دائمة فى أوساط عديدة بأن هناك ضيق أفق يغلب على التعامل بين الناس، وتراجعا فى المهنية، خاصة لدى اصحاب الحرف، فضلا عن انتشار لغة مراوغة فى مداولات البيع والشراء، وعدم الوفاء بالاتفاقات كما وكيفا، والجدل الدائم فى كل شيء، بما يشبه فائض الكلام، أو ما يسمى الحوارات حسب التعبير الدارج حاليًا.

ولكن هذه الحالة العامة لا تخفى أمرين: الأول وجود نماذج أخلاقية وسلوكية جيدة بين الناس، ومبادرات مبدعة نراها خاصة فى الأزمات، تثبت وجود رغبة فى عمل الخير لدى قطاعات واسعة من المجتمع. والأمر الثانى هناك ميل شديد بين الشباب خاصة لتعلم سلوكيات أفضل للحياة، بدءا من طرق التفكير الايجابى، والعلاقات الاجتماعية البناءة، والتعرف على الخبرات الإنسانية من واقع تجارب الناس. وأظن أن جانبًا من إقبال الشباب على الرواية فى السنوات الأخيرة يعود إلى وجود رغبة ما لديهم فى التعلم بأساليب غير مباشرة، تعتمد فى الأساس على تفاعل القارئ مع نص أدبى، يهضمه ويفهمه كما يشاء، دون وجود موجه أو مرشد له. وهناك أمثلة مهمة تشير إلى تزايد اهتمام الناس باكتساب سلوكيات أفضل. منها الإقبال الواسع على قنوات اليوتيوب التى تتناول القضايا النفسية والسلوكية، بحيث يبلغ أعداد متابعيها الملايين، وتناقش التفكير والتكيف مع المتغيرات، والإرشاد الاسرى، والعلاقات بين الزوجين، وغيرها، وقد استغربت أن هناك أمورا تبدو بديهية، او تجاوزها النقاش فى مجتمعات كثيرة، لا يزال هناك إقبال على مناقشتها،والخوض فيها. ومن الملفت أيضا ازدياد الطلب على القضايا النفسية والسلوكية فى ضوء ظروف المجتمع اقتصاديًا واجتماعيًا، التى أدت إلى ظهور أزمات اجتماعية غير مألوفة، وأخرى لم يكن المجتمع يعرفها على هذا القدر من الاتساع. ولا إبالغ إن قلت إن الأجيال الجديدة من الطبقة الوسطى تتطلع دائما الى ثقافة جديدة، تغير واقعها، وتجعلها أكثر انفتاحا. منذ سنوات كنت اُدرس إحدى المواد التى تتصل بالفكر السياسى لطلاب الإعلام فى السنة الأولى، وحرصت الا اكون نمطيا، فطرحت عليهم قضايا بدت لهم غير تقليدية مثل المجتمع الاستهلاكى والنسوية والدلالات الاجتماعية للعديد من الظواهر فى المجتمع، خاصة فى اتصالها بالإعلام، وقد لاحظت شغفا كبيرا لدى الطلاب والطالبات عندما ناقشت معهم هذه القضايا، وتولدت من النقاشات أسئلة فرعية مهمة: المرأة عارضة الوجاهة فى الإعلانات؟ كيف يستغل المجتمع جسد المرأة؟ كيف ننظر للأشياء من منظور إنسانى، وليس استهلاكيا أو نفعيا؟ واللافت أننى عندما طلبت من كل منهم أن يكتب مقالا فى إحدى هذه الزوايا، ظهر من الأوراق التى قدموها انشغالهم الجدى بهذه الموضوعات.

بالتأكيد التطوير مهم وأساسى للتقدم، وهو ليس فقط ماديًا فى منجزات ومنشآت، فهذه ضرورية لتطوير فرص الحياة، وهى تحدث بالفعل فى المشروعات المهمة التى تقوم بها الدولة فى السنوات الأخيرة مثل الأسمرات وبشائر الخير والمدن الجديدة ومبادرة حياة كريمة، ولكن التطوير يشمل أيضا تكوينا أفضل للمرء من خلال ما يتعلمه النشء والشباب من أفكار وسلوكيات، مثل التفكير الإيجابى، وأساليب التعبير الهادئ،وإدارة العلاقات الاجتماعية الناجحة، والتخطيط الجيد، ووضع الأهداف وتحقيقها، واحترام قيمة الوقت، وتسوية المنازعات، واكتشاف المهارات والمواهب، والتصدى للسلوكيات المُضرة سواء المٌنتجة محليا، أو الوافدة من الخارج، وغيرها، من الموضوعات التى يتعين أن تجد طريقها إلى التعليم الرسمى، بأسلوب مبتكر غير نمطى يعتمد على التفكير النقدى وإثارة الاهتمام وتفجير الطاقات. إلى جانب الدراسة النظرية، ينبغى أن نُفسح المجال أمام الأجيال الشابة للتعلم الإنسانى، والارتقاء بالوجدان والتفكير الصحيح، سواء فى مبادرات أهلية، ومشروعات خيرية، وأنشطة محلية، أو مطبوعات ثقافية، أو تدريبات سلوكية ومهارية، أسوة بما يحدث فى الدول المتقدمة، التى تجعل من التربية النفسية والسلوكية شأنا مهما، وتنزعج إزاء أية بوادر تشير إلى اتساع نطاق الجريمة والعنف وانحراف السلوك، باعتبار أن ذلك يخصم من نوعية الحياة الجيدة التى يتمتع بها مواطنوها.
نقلا عن الاهرام