عاطف بشاي
يجهل العامة عادة طبيعة الأمراض النفسية والعقلية وأعراضها.. وطرق علاجها والفروق الجوهرية بينها. ويخلطون خلطًا شائعًا بين المرض النفسى وسلوك الشخصية وأخلاقها وأفعالها وردود أفعالها تجاه الآخرين. ونحن في أغلب الأحيان نتعامل مع المريض النفسى في إطار موقفنا من سلوكه المرضى تعاملًا اجتماعيًّا بمعنى أننا نرى سلوكه المرضى هذا ليس سوى جزء من سمات شخصيته.. فالإنسان المصاب بعصاب الوسواس القهرى مثلًا، الذي يضطر للقيام ببعض الأعمال والطقوس التي يرفضها عقله الواعى ويرفضها المنطق، لكنه لا يستطيع أن يهدأ إلا إذا قام بها مثل تكرار غسل اليدين أو تكرار التأكد من القيام بعمل معين أو الإلحاح المستمر على السؤال لمعرفة أمر، ربما يكون تافهًا أو غريبًا أو شاذًّا.
هذا الإنسان يتعامل معه الناس باعتباره «نمكيًّا» أو «محبِّكها شوية» أو «حنبليًّا»، ولا يدركون أنه مريض يعانى القلق والاكتئاب.. ولابد من علاجه.. والمصاب بالعصاب الهستيرى ذى السلوك الاندفاعى والعدوانى والانفعالات الحادة المصحوبة بالصراخ وعدم القدرة على التحكم في غضبه ويصل به الغضب إلى أقصى مدى من التهور والثورة لأسباب بسيطة لا تتناسب مع هذه الثورة.. هذا المريض يتعامل معه الناس باعتبار أنه «عصبى شوية» أو «دمه حامى» أو «ابن سبعة»، لكن قلبه أبيض.
«بيهب يهب وينزل على مفيش».. بينما «مفيش» تلك قد تؤدى إلى ارتكابه جريمة في لحظة ثورة مفاجئة.. ومريض الاكتئاب، الذي يشعر بالحزن واليأس والتشاؤم والرغبة في الانطواء والعزلة وكراهية الحياة، يتعامل معه الناس باعتباره «نكدى» أو «غاوى غم» أو «نفرى» أو «زعلان شوية في ذات نفسه».. ولا يدرون أنه يتعذب ويعانى وأن آلامه الداخلية تمزقه.. أعرف سيدة ظلت أسرتها تستهين بمعاناتها، وتفسر اكتئابها على أنه نوع من الدلع الأرستقراطى أو الرفاهية البورجوازية، حيث إنها لا تعانى من وجهة نظر أفراد أسرتها مشاكل تستحق هذا الكدر أو الاغتمام، وينصحونها بالترفيه عن نفسها.. السفر لتغيير الجو، والتريض على شاطئ قرية سياحية.. وعليها مشاهدة أفلام كوميدية لشباب من نجوم المرحلة، قائمة على الزغزغة والهزل، وبها عدد وافر من الإفيهات التافهة، ولا تحمل أي مضمون يستدعى التفكير وإعمال العقل ودوشة الدماغ المُرهَق بالنكد.. وكانت النتيجة أنهم فوجئوا بهذه السيدة، وقد ألقت بنفسها من الشرفة منتحرة.
لم ينصحها أحد باللجوء إلى الطبيب النفسى.. ذلك لأن تصورهم عن المرض النفسى أو العقلى لا يخرج عن كونه ذلك النموذج الشائع للرجل الذي يرتدى زيًّا غريبًا.. يسير في الشوارع يُحدِّث نفسه.. ويشتم المارة. والصبية يتحرشون به، ويقذفونه بالطوب.. أو ذلك الذي يقف عند إشارة المرور، يضع أغطية المياه الغازية على صدره، ويحمل عَلَم «أمريكا»، ويقوم بتنظيم حركة المرور، ولأن العامة يجهلون طبيعة تلك الأمراض النفسية والعقلية، فهم لا يذهبون إلى عيادات الأطباء النفسيين، ويخشون افتضاح أمرهم لدى الأهل والأصدقاء خوفًا من اتهامهم بالجنون والشذوذ، فيتجنبون التعامل معهم.. بالإضافة إلى أن شخصية الطبيب النفسى التي تنطبع في أذهانهم هي تلك الشخصية التي يشاهدونها في الأعمال الدرامية سواء السينمائية أو التلفزيونية التي تُظهره للأسف بصورة مشوهة نتيجة جهل أغلب كُتاب السيناريو والمخرجين بطبيعة مهنته.
وتصنيف تلك الأمراض والفروق المختلفة في تشخيصها وطرق علاجها، فيظهر في الأعمال الكوميدية غريب الأطوار مهمل المظهر.. شعره أشعث، إذا انفعل جذبه في عنف هستيرى.. ويهذى بتعبيرات هزلية أو خاطئة.. ولا علاقة لها بالطب النفسى على الإطلاق.. ويبدو أشد مرضًا من المريض نفسه.. ما يدعو إلى السخرية منه. ويسهم ذلك في عزوف الكثير من العامة عن زيارة الطبيب النفسى، كما أنهم يحسون- كما سبق أن أشرنا- بأن ذلك يمثل فضيحة اجتماعية تمس سمعتهم إذا ما عرف المحيطون بهم بهذه الزيارة، ومن أمثلة تلك الصورة الهزلية للطبيب النفسى مشهد شهير في فيلم «مطاردة غرامية» لعب فيه الفنان «عبدالمنعم مدبولى» دور طبيب نفسى يلجأ إليه رجل قصير يعانى سخرية مَن حوله، مما أدى إلى إصابته بالاكتئاب والعزلة المجتمعية، فما كان من الطبيب الدجال إلا أن نصحه بتكرار جملة «أنا طويل واهبل.. مش قصير أُزعة» ليوهم نفسه والآخرين بعكس الحقيقة.
وإذا كان هناك الطبيب النفسى الدجال، فالشائع أكثر التشخيص الخاطئ للمرض العقلى من قِبَل معظم مَن يمثلون هذه الشخصية على الشاشة.. ففى فيلم «بئر الحرمان» عن قصة الأديب «إحسان عبدالقدوس» وإخراج «كمال الشيخ» نتيجة لجهل كاتب السيناريو بأعراض مرض «الفصام»، فالبطلة «سعاد حسنى» تتلخص أزمتها في تقمصها شخصية عاهرة تتسلل من منزلها ليلًا بملابس فاضحة لتتصيّد الرجال.. وفى الصباح نراها فتاة بريئة فاضلة تجهل تمامًا ما فعلته ليلًا.. والحقيقة أن مرض الفصام ليس من أعراضه هذا التقمص لشخصيات مختلفة، كما جاء أيضًا في فيلم «عفريت مراتى»، بطولة «شادية» و«صلاح ذوالفقار» وإخراج «فطين عبدالوهاب».. لكن أعراضه هي الهلاوس السمعية والبصرية والضلالات المختلفة.. ونتيجة لذلك، فالمريض يرى ما لا يراه الآخرون، ويسمع ما لا يسمعه الآخرون، ولا يتحول إلى شخصية أخرى، ولا يتم علاجه كما تم في الفيلم عن طريق بحث الطبيب النفسى عن ماضى المريض للوصول إلى أسباب المرض.. والحقيقة أن الفصام يُعالَج بالعقاقير وليس بالدردشة مع الطبيب.
نقلا عن المصرى اليوم