أيمن زكى
في مثل هذا اليوم تنيح الأب العابد العظيم القديس انبا بيصاريون الكبير. وتعتز الكنيسة في الشرق والغرب بهذا الأب العجيب القديس بيساريون، فتحتفل الكنيسة القبطية بعيد نياحته في 25 مسرى، بينما يعيد له الغرب في 17 يونيو.
عاش هذا الأب المصري في القرن الرابع؛ شبهه المعجبون به بموسى ويشوع وإيليا ويوحنا المعمدان. قيل عنه إنه كان أحيانًا يعيش مع وحوش البرية المفترسة.
وُلد القديس بيصاريون من أبوين مسيحيين، وقد أحب الحياة الملائكية منذ صباه فشعر بتغربه عن العالم، وبقي هذا الشعور ملازمًا له كل أيام غربته. انطلق أولًا إلى الأنبا أنطونيوس الكبير حيث مكث زمانًا تحت تدبيره، ثم جاء إلى القديس مقاريوس يتتلمذ على يديه، وأخيرًا هام في البرية كطائرٍ غريبٍ لا يملك شيئًا ولا يستقر في موضع، منتظرًا راحته الأبدية.
وقد روى تلاميذه عنه أن حياته كانت كأحد طيور السماء أو حيوان البرية، يقضي حياته بلا اضطراب أو هّم. لم يكن يشغله اهتمام بسكنٍ يقطنه، ولا أمكن لشهوة أن تسيطر على نفسه. لم ينشغل بطعام ولا بناء مساكن ولا حتى بتداول كتب، إنما كان بالكلية حرًا من كل آلام الجسد، يقتات بالرجاء في الأمور العتيدة، محاطًا بقوة الإيمان. كان يعيش بصبرٍ كسجينٍ يقُاد إلى أي موضع، محتملًا البرد والعري على الدوام، ومستدفئًا بنور الشمس، عائشًا بدون سقف، متجولًا في البراري كالكواكب.
وكثيرًا ما كان يُسّر بالتجول في البرية كما في بحر. وإذا حدث أن جاء إلى موضع يعيش فيه رهبان حياة الشركة، يجلس خارج الأبواب يبكي وينوح كمن انكسرت به السفينة وألقته على الشاطئ. فإن خرج إليه أحد الإخوة ووجده جالسًا كأفقر متسولٍ في العالم كان يقترب منه ويقول له بشفقة: "لماذا تبكي يا إنسان؟ إن كنت في عوز إلى شيء فإننا قدر المستطاع نقدمه لك، فقط أدخل واشترك في مائدتنا وتعزى". عندئذ يجيب: "لا أستطيع العيش تحت سقف مادمت لا أجد غنى بيتي (يقصد به الفردوس المفقود)"، ليضيف أنه قد فقد غنى كثيرًا بطرق متنوعة. "لأني سقطت بين لصوص (يقصد بهم الشياطين)، وانكسرت بي السفينة، فسقطت من شرفي وصرت مهانًا بعد أن كنت ممجدًا". إذ يتأثر الأخ بهذه الكلمات يعود إليه حاملًا كسرة خبز، ويعطيه إياها، قائلًا: "خذ هذه يا أبي، لعل الله يرد لك الباقي كما قلت: البيت والكرامة والغنى الذي تحدثت عنه"، أما هو فكان يحزن بالأكثر، ويتنهد في أعماقه، قائلًا: "لا أستطيع أن أقول إن كنت سأجد ما قد فقدته وما أبحث عنه، لكنني سأبقى في حزن أكثر كل يوم محتملًا خطر الموت، ولا أجد راحة لمصائبي العظمى. فإنه يليق بي أن أبقى متجولًا على الدوام حتى أتمم الطريق".
و مع بساطته العجيبة، كان يدعو إلى الحكمة ليصير المؤمن كالشاروب والساروف مملوء أعينًا، ففي لحظات رحيله كانت وصيته الوداعية: "يليق بالراهب أن يكون كالشاروب والساروف، كله أعين".
و قد قال أبا دولاس (شاول) تلميذ أبا بيصاريون: [كنا نسير ذات يوم على شاطئ بحيرة، فعطشت وقلت للأنبا بيصاريون: "أنا عطشان جدًا يا أبي". فلما صلى قال لي "اشرب من ماء البحيرة". فصار ماء البحيرة عذبًا فشربت. ثم جعلت بعض الماء في وعائي الجلدي خشية العطش بعد حين. فما رآني الشيخ أفعل هذا، قال لي: "لماذا ملأت وعاءك ماءً؟" فقلت لي: "أغفر لي يا أبتي، لأني فعلت هذا خوفًا من الظمأ بعد حين". قال الشيخ: "الله هنا، الله في كل مكان!"]
قال أبا بيصاريون: "وقفت أربعين ليلة ولم أنم". كما قال: "خلال أربعين سنة لم أنم على جنبي بل كنت أنم وأنا جالس أو وأنا واقف".
وقد ارتبط اسم القديس بيصاريون بالقديسة تاييس التي دعت نفسها للدنس والخطية فدمرت معها نفوسًا كثيرة. فذهب إليها وتحدث معها حتى جمعت كل غناها في وسط سوق المدينة وأحرقته أمام الجميع، ودخلت أحد أديرة النساء لتعيش حبيسة، وتنال في عيني الرب كرامة عظيمة خلال نعمته الفائقة. و تظهر محبته للخطاة وترفقه بهم مما جاء عنه أن شخصًا ارتكب خطأ في الكنيسة فطرده الكاهن منها، فقام الأب بيصاريون وخرج من الكنيسة وهو يقول: "إن كنت قد حكمت على هذا الرجل الذي ارتكب معصية واحدة أنه لا يستحق أن يعبد الله، فكم بالأولى بالنسبة لي أنا الذي ارتكب خطايا كثيرة؟!"
من كلماته في هذا الشأن:
"ويل لذاك الذي فيه ما هو في الخارج أكثر من الذي فيه ما هو في الداخل (بمعنى الويل للذي ينظر إلى خطايا أخيه الخارجية ولا يتطلع إلى خطاياه هو الداخلية)".
و قد و هبه الله تبارك اسمه صنع العجائب و منها:
قال تلميذه:
إذ كان في طريقه بلغ إلى نهر، ولم يكن يوجد ما يعبر به، فبسط يديه وصلى وعبر إلى الشاطئ الأخير. أما أنا فدُهشت، وصنعت له مطانية ، قائلًا: "عندما كنت تعبر فوق النهر إلى أي حدٍّ كانت رجلاك يا أبتِ تشعران بالماء الذي تحتك!" قال: "كنت أشعر بالماء عند كعبي، أما بقية قدمي فكان تحتها يابسًا".
دفعة أخرى كنا في رحلة إلى أحد الحكماء العظماء، وكادت الشمس تغيب. صلى الشيخ، قائلًا: "أرجوك يا سيدي أن تجعل الشمس تدوم في مكانها حتى أمضي إلى عبدك"، وهذا ما حدث فعلًا.
أتيت إليه مرة في قلايته لأخاطبه، فرأيته واقفًا يصلي باسطًا يديه نحو السماء، ومكث واقفًا أربعة أيام وأربع ليالٍ، ثم دعاني وقال لي: "تعال يا ابني". فخرجنا وسرنا في طريقنا، وإذ عطشت قلت له: "يا أبتِ، أنا عطشان"، فانفصل عني نحو رمية حجر وصلى، ثم عاد إليّ ومعه في عبائته ماء من الهواء فشربت، ومضينا في طريقنا إلى ليكيوس (أسيوط) إلى الأنبا يوحنا. وبعدما سلم أحدهما على الآخر، صلى وجلس وخاطبه بخصوص رؤيا رآها. فقال أنبا بيصاريون: "من قبل الرب خرج أمر أن تزول جميع معابد الأصنام"، وقد حدث ذلك تمامًا إذ استؤصلت جميعًا في ذلك الوقت.
كان لرجل في مصر ابن مفلوج، حمله على كتفيه إلى الأنبا بيصاريون وتركه عند باب قلايته يبكي وارتحل إلى موضع بعيد. إذ سمع الشيخ صوت بكاء الصبي ونظره، قال له: "من أنت؟ وما الذي جاء بك إلى هنا؟" أجاب الصبي: "أبي أحضرني ومضى وهاأنذا أبكي". قال له الشيخ: "قم، اجرِ وراءه وألحق به"، وفي الحال شُفي الصبي ومضى إلى أبيه الذي أخذه ورحل.
مرة أخرى جاء إلى الكنيسة رجل به شيطان، وأُقيمت من أجله صلاة في الكنيسة، لكن الشيطان لم يخرج إذ كان من الصعب إخراجه. فقال الكهنة: "ماذا نعمل بهذا الشيطان؟ لا يقدر أحد أن يخرجه إلا أبا بيصاريون، ولكننا إن سألناه أن يخرجه لن يأتي حتى إلى الكنيسة، إذن سنفعل هذا دون علمه، لأن أبا بيصاريون يأتي إلى الكنيسة عند الصباح قبل الجميع، نضع المريض في طريقه، وعندما يدخل نقف للصلاة، ونقول له: انهض الأخ يا أبانا". وهكذا فعلوا، فعندما جاء أبا بيصاريون إلى الكنيسة في الصباح، وقف الإخوة جميعهم للصلاة، وقالوا له: "انهض الأخ يا أبانا". فقال له الشيخ: "قم وأخرج"، وللحال خرج منه الشيطان وشفي.
من كلماته:
سأل أخ يقيم مع إخوة أبا بيصاريون: "ماذا أفعل؟" أجابه الشيخ": "احفظ السكون، وأحسب نفسك كلا شيء!"
ليكن لك اهتمام عظيم أيها الراهب ألا ترتكب خطية حتى لا تهين اللَّه الساكن فيك وتطرده من نفسك!
بركه صلاته تكون معنا كلنا امين...
و لالهنا المجد دائما ابديا امين...