د.أحمد الخميسي 
كنت وأنا في العاشرة من عمري أحصل على  مصروف لا يتجاوز خمسة قروش، حسب الظروف، مرة في الأسبوع، أو مرة كل عشرة أيام، أو لا أحصل عليه أصلا، لأن العين بصيرة واليد قصيرة، فقد كنا عشرة أشخاص في الشقة، نعيش معا، أنا وأخوتي الخمسة، وأمي، وخالي الذي طرده جدي فلجأ إلينا ليكمل تعليمه، علاوة على طفلين صغيرين هما أبناء خالي الثاني الذي تم اعتقاله فألحقتهما أمي بالحشد الجماهيري الذي تتولاه بالرعاية.
 
ولكي أنتزع القروش الخمسة التي نادرا ما كنت أراها هداني تفكيري إلى أن أربط على خصري دورقا كبيرا به ماء محلى بعسل أسود، وبيدي الأخرى كوب فارغ، ثم أطوف بتلك البضاعة على أخواتي أقرع زجاج الدورق بملعقة هاتفا فيهن : "عرقسوس يا أولاد.
 
الكوب بقرش". وما زلت حتى هذه اللحظة لا أدري أكانوا يشترون المياه لأنهم يتخيلون حقا أنها عرقسوس، أم أنها كانت حسنة قليلة للأخ الغلبان، على أي حال كنت أفك الدورق عن خصري ما إن تصبح بعض القروش في يدي  وأنطلق إلى سينما الشرق المجاورة لبيتنا في السيدة، أشتري تذكرة درجة ثالثة " ترسو" بثلاثة قروش وأظل قابضا على القرشين بيد من حديد. في ترسو السينما لم تكن ثمة مقاعد، لكن دكة طويلة، واحدة وراء أخرى، لا يشغلها سوى عيال من كافة أنحاء الفقر، وكان العثور على مكان مستحيلا. أقف قليلا حتي يلمحني الشاب بلطجي الترسو، فيقترب مني ويقول: " عاوز تقعد يا واد؟".
 
أتمتم بأمل : " نعم". يبسط يده ويقول:" هات قرش". أعطيه القرش، وأراه يجلس على طرف دكة ويضرب بمؤخرته الجالسين فيزيحهم مسافة بحيث  ينفسح مكان لي، وفي المقابل كان هناك في الطرف الآخر من الدكة عيل يقع على الأرض من شدة الضربة! أتفرج بالفيلم الأمريكي، وأنا أتزحزح كل شوية من جراء ضربات البلطجي ليفسح مكانا للعيال الجدد، وحين بدأ فيلم " بين الأطلال" كنت قد امسيت في نهاية الدكة ثم واقعا منها على الأرض. أنهض، انفض التراب عن سروالي وأعود إلى البلطجي في صمت وأناوله القرش الأخير،  فيقوم بنفس العملية.
 
ولم يعوقني سقوطي ونهوضي عن متابعة الفيلم، بل والتأثر الشديد بمشهد عماد حمدي وهو جالس يسكر ويقول : " أنا بأسكر عشان أنسى". عدت إلى البيت وفي اليوم التالي وجدتني أمي جالسا إلى منضدة ورأسي محني على قدح مياه أمامي،  فسألتني بقلق :" مالك يا إبني؟".
 
قلت لها وأمارات الأسى على وجهي:" مفيش.. أنا بأسكر عشان أنسى".
 
وتطورت موهبة تقمص الشخصيات الصغيرة عندما أديت في تمثيلية بالتلفزيون دورا صغير، صغيرا جدا، مجرد شخص عابر في الشارع ولا ينطق كلمة، أيامها كنت متعلقا بابنة الجيران التي لم تنتبه إلى وجودي أو مشاعري قط، لكن تصادف أنها شاهدتني في تلك التمثيلية في التلفزيون، فإذا بها تلهث ورائي على سلم العمارة وتمسك يدي بحرارة وتكاد تقبلني هاتفة:" أحمد أنا شفتك في التلفزيون" ! كنت مذهولا، لا أصدق أن القمر نزل من سمائه وكلمني، مع ذلك تمالكت نفسي وقلت بأدب وتواضع النجوم : " ده دور بسيط.. لكن بعد كده ح أبقى أدقق في السيناريو".
 
إلا أن شخصية بائع العرقسوس، وشخصية السكير الذي يريد أن ينسى ما لا يتذكره، والشخص الذي عبر لحظة في مشهد بالتلفزيون، كل هذا سرعان ما توارى في  غيابات الزمن المهول. تختفي الحياة ولا يبقى سوى حياة الحكايات.