(بعض الفقرات قد تكون صادمة)..
محمد طه
"إذا لم يعمل الطباخون بالطبخ.. فربما أصبحوا قاتلين متسلسلين"..
ده عنوان مقال للطباخ الأمريكى الشهير (جاستن جونسون) سنة 2012.  جونسون بيوصف فى المقال تجربته فى حضور كورس لأحد أشهر وأمهر الطباخين فى العالم وقتها (جيم ماكجوينز).. الدرس حضره 25 طباخ شاب.. وكانوا فى منتهى الحماس والانبهار ب(ماكجوينز) اللى كان بيعلمهم فى أول مقابلة طريقة تقطيع سرطان البحر (الاستاكوزا) وهو حي.
 
جاستن بيوصف شعوره وشعور الحاضرين فى المكان.. بانهم حسوا بخوف ورعب غريب بيتسلل ليهم وهما شايفين الراجل الهادى جداً الرقيق جداً بيتحرك أمامهم بشكل هو أقرب للعقرب اللى مستنى فرصة واحدة.. يلدغ فيها خصمه..
 (ماكجوينز) بدأ يشرح البناء التشريحى للرخويات وللقشريات، وأثناء ذلك، وفجأة.. وفى منتصف الجملة.. أطبق على الكائن اللى في إيده تماماً.. ولوى جسمه مصدراً صوت كسر مسموع للجميع.. ومزقه بلا رحمة.. إلى نصفين.. وبحركة أصابع سريعة.. فصل رجليه عن ديله.. ومخالبه عن باقى جسمه. 
الراجل عمل كل ده فى عشرين ثانية.. قام فيها بتفكيك جسد الكائن المسكين.. اللى ما زالت أجزاؤه بتتلوى بشكل تلقائى قبل أن تغادرها نبضات أعصابها المفصولة عن دماغها.   
 
جاستن بيوصف ان المكان امتلأ بالصمت.. اللى قطعته دموع الشخص النباتى الوحيد فى المتدربين.. وان باقى الناس انقسموا فريقين.. فريق فاتح فمه من الدهشة.. وفريق قافل فمه بإيده لمنع الصراخ.. أمام الطباخ الشهير اللى اعتلت وجهه ابتسامة ساخرة هادئة.. وكأنه بيقول: أهلا بكم فى عالم الطبخ.
وقتها فقط أدرك جاستن.. ان عملية الطبخ.. ليست سوى تحويل الأشياء الحية إلى أشياء ميتة.. وان فيه تشابه شديد بين عملية الطبخ.. وعملية القتل: الاتنين محتاجين ايدين ثابتة.. وحركات حاسمة.. وتنظيف جيد للفوضى التالية.
 
استنى ماتستعجلش..
فى فبراير 2005 صدر كتاب غريب جداً.. اسمه  Cooking with a serial killer: Recipes from Dorothea Puente (الطبخ مع قاتل متسلسل: وصفات طبخ من دوروثيا بوينتي).. 
الست دوروثيا دى كانت نصابة محترفة وقاتلة متسلسلة.. كانت عاملة نزل خاص فى ساكرامنتو بأمريكا، لإيواء ورعاية كبار السن والمرضى العقليين ومن لا مأوى لهم.. دوروثيا كانت بتستضيف الناس دول.. وتقتلهم.. وتدفنهم فى حديقة النزل الخلفية.. وتستقبل شيكات الإعانة الحكومية الخاصة بيهم مكانهم.. وتاخدها ليها.. فى نفس الوقت دوروثيا كانت طباخة ماهرة.. لدرجة ان نزلاء المكان كانوا بيعلقوا على طبيخها بإنه (كل عشاء تصنعه كأنه عشاء عيد الشكر).. 
 
أحد الناشرين تواصل معاها أثناء وجودها فى السجن.. وتبادل معاها الخطابات اللى حكت فيها قصتها.. وسجلت فيها وصفات الطبخ الخاصة بيها.. واللى كانت على حد وصف قراء الكتاب اللى جربوها.. مذهلة.
طبعاً ده مش معناه على الإطلاق إن أى حد بيطبخ كويس يبقى جواه أو عنده استعداد يبقى قاتل محترف.. دى حالات استثناءية تماماً وموجودة فى سياقات أخرى كتير غير الطبخ. 
 
الأكل رمز لابتلاع الآخر داخلك..
احنا لما بنحب حد بنخزن منه نسخة صوت وصورة فى عقلنا.. بنسمى ده فى علم النفس Introjection (إدخال). بندخل جوانا تفاصيل وأشكال وصفات اللى بنحبهم.. علشان لما يبعدوا عننا نستحمل بعدهم باننا نستدعى صورتهم أو صوتهم أو تفاصيلهم من جوانا.. فنتطمن.. ونتونس..
وبندخل جوانا كمان تفاصيل وأشكال وصفات الناس اللى بنكرههم.. كوسيلة أخرى للسيطرة عليهم.. والتحكم فى أذاهم.. وربما قتلهم والتخلص منهم.. بالتهامهم -رمزيا- داخلنا.
الأكل العاطفى Emotional eating.. بيفسر أحياناً إنه جوع للناس.. احتياج للحب من الناس..
التقيؤ المتعمد للأكل بعد تناوله (الشره العصابى) Bulimia Nervosa.. بيفسر أحياناً بإنه رغبة فى طرد الوجود الداخلى للناس المؤذيين فى حياتنا.. عن طريق طرد رمزى لما هو داخلنا.
 
كذلك فقدان الشهية العصابى (Anorexia Nervosa).. بتفسر أحياناً بأنها رفض شديد لادخال أى أحد فى عالمنا الداخلى.. متمثلاً فى رمزية الأكل..
رابط شديد بين الأكل.. الحب.. الكره.. القتل..
الطبخ.. الناس.. الالتهام.. القتل.. 
احنا عندنا فى كلامنا اليومي أمثلة كتير.. واحنا مش واخدين بالنا.. انها -لفظياً- مرعبة:
الأم اللى بتبلع أولادها.. يعنى بتلغى شخصيتهم..
والقطة اللى بتاكل عيالها.. لو حست انهم غير قادرين على البقاء ومواجهة الحياة..
واللى واكل مال النبى.. 
والناس اللى بتاكل بعض (من التنافس والتناحر)..
والراجل اللى مش نازلك من زور..
والشخص اللى انت مش بالعه..
والبنت الجميلة المهضومة..
فى كتابه The wisdom of Psychopaths (حكمة السيكوباثيين).. ومن خلال بعض الدراسات والأبحاث والملاحظات اللى بحثت فى مدى انتشار بعض الصفات السيكوباثية فى الناس العاديين بدرجات مختلفة.. وجد عالم النفس البريطانى كيفين ديوتن ان الطباخين فى الترتيب رقم تسعة فى الأكثر انتشاراً.. بعض مقتطفات الكتاب نشرتها مجلة التايم فى 21 مارس 2014. طبعاً هاتسأل مين رقم 1: دول يا سيدى كانوا الCEOs.
أفضل من ارتدى قبعة الطبخ البيضاء فى مطبخ مركز مينارد التأهيلى بولاية إلينوى، كان قاتل متسلسل شهير جداً اسمه John Wayne Gacy.. الراجل ده قتل واعتدى على 33 ضحية ما بين أطفال وكبار.
 
فيه بعض الصفات المشتركة بين تركيبة الشخصية السيكوباثية.. وبعض الطباخين المحترفين.. منها القدرة الشديدة على الإقناع.. الجاذبية .. المتعة فى التواصل من ناحية.. والخجل.. التحفظ.. وعمق التفكير.. من ناحية أخرى.
 
فيه مستوى أعلى شوية من التشابه بين تفاصيل عملية الطبخ وما تحتاجه من مهارة.. وتفاصيل عملية القتل.. 
المستوى ده هو التهام الضحية.. يعنى أكلها بعد قتلها.. Cannabalism. وده قصة تانى لوحدها.. وفيه هنا أمثلة وأسماء معروفة.. زى Dahmer, Ridgeway, Chikatilo.. 
 
كل اللى فاتوا دول اتعمل على حكايتاهم أعمال درامية ومسلسلات وأفلام.. من أول Evil spirits عن السيدة Dorothea Puente.. لغاية Dahmer.. ومروراً بسلسلة أفلام هانيبال الرهيبة.. اللى (هانيبال ليكتر) كان بيطبخ فيها أجزاء من مخ المحقق قدامه وهو قاعد معاه على ترابيزة الأكل.. وفيلم Perfume.. اللى بيضيف بُعد (الرائحة الآدمية) على الوجبة بشكل صادم ومدهش.
علماء النفس وجدوا ان المجرمين اللى بالشكل ده بيكونوا تعرضوا لأشكال صعبة جداً من اساءة المعاملة فى طفولتهم.. إلى جانب تغيرات تشريحية واضحة فى المخ.
طبعاً انت عارف ان أجدادنا فى عصر الإنسان الأول كانوا بياكلوا بعض بالمعنى الحرفى مش الرمزى.. كان أكل لحوم البشر بدافع البقاء أحياناً.. وكطقس جنائزى أحياناً  أخرى..
ماكنتش عارف؟
انى آسف.. 
علاقة الأكل.. بالطبخ.. بالقتل.. بالحب.. بالكره.. بالبلع.. بالترجيع.. بالالتهام.. أكبر.. وأعقد.. مما قد يتصور أحد..
لأنها تحوى بصمات وآثار رحلة وجود الإنسان على الأرض..
من أولها..
وحتى الآن..