القمص اثناسيوس فهمي جورج 
عاش انبا ايساك المفهوم الأصلي للرهبنة القبطية التي لاباء الاسكيم وستبقى أقواله وأعمال سيرته منبع لخبرة  ومسيرة تواصل الاجيال ؛ راهباً سماوياً وجنديا صالحاً في كل يوم وكل ساعة ؛  وهو المدعو والمقيد ضمن افخر سجل رهبان  هذا الجيل.
 
عاش ملتزماً بشكل الطريق وجوهره مفضلا الأضيق والأقل ؛  وكفاف المعيشة مكتفياً بخبز اليوم، محولا انين العالم وضيقاته إلى سلام ونعيم وسرور الفيلوكاليا. متغربا معوزا مكملا طقس نسك القبط الأولين، ومن هو كفؤ لهذه الأمور العظيمة عندما يستطيب حلاوة العشرة الإلهية.
 
رفع رأسه لدى العلي الذي في السموات واستمد زاده  من خبز الملائكة، مقدماً مشورات حريته ودلائل حبه للسيد بثمار الجلوس عند قدميه، وكلما تقدم ذاق دسم عرس الحمل ودسمت نفسه برضا القدوس … انبا ايساك كان عيده في دموعه، في سكونه، في صمته وفهمه للنذور الرهبانية، وما كف ابداً عن عيش وحفظ ما تسلمه عن الأباء السريان المشاهير الذين تسموا بالرهبان الجامعيين في خمسينيات القرن العشرين (١٩٥٠-٢٠٢٢ م)
 
أبونا ويصا السرياني كانت دعوته الرهبانية بعلامات سماوية وبقى عمره صامداً يستحضر ثياب عرسه ويهيئ لباسه في الطريق الموصل إلى الوليمة ، ذلك الطريق العالي المقدار والمملوء بالاسرار ؛  والمفتوح على الكنوز والاعلانات الخاصة مروضاً نفسه للتقوى بثبات الحصاد الحسن في قلايته، ممسكاً بالحياة الأبدية على أساس قبطي راسخ ، طوباياً ساعياً لحفظ قانون الملكوت ؛ باتضاع ومسكنه . فكان حقاً من الملائكة الأرضيين والبشر السمائيين، صورة للرهبان العباد الذين عاشوا أزمنة الملكوت متعلمين معرفة اسرار الله، لذلك افصحت كتاباته "تأملات في البرية" عن عنوان كدحه لأعمال البر وسبق معرفته للحق ولسجيا الساهرين المتجندين في خدمة الملك.
 
سلم انبا ايساك ذاته ليد الله ولم يهرب من الضيقات والمحقرة والاهانة، محتملا الجلوس في المزبلة دون ضجر أو دمدمة، فصار نموذجاً للشهيد الحي، بصمته وسلامه، مثل أولئك المكتوب عنهم في كتب سير البستان ومراقي النساك الأوليين.
 
لقد حسب ان اطهر ارض في هذا العالم هي ارض دير السيدة العذراء (السريان) حسبما كان يقول...، لانها موطن جهاده وعرقه وصبره وسجوده وصموده ؛ حيث كان  العدو يتربص به، بينما هو قد تمنطق وملأ جعبته بسهام اياته المبرية وسط طريق محفوف بالفخاخ والأشواك ، فضرب سهما بسهم، واعد حياته ليأتي ويسكن فيها صاحب الوعود الإلهية التي بلا ندامة، مفروزاً للعبادة والنسك والسهر واقتناء الأمور الجوهرية التي لكمال البر والمسرة الروحية.
 
حكى لن الكثير من الحكايا التي اختبرها هو شخصياً حول مرافقته لاباء جبابرة بأس زاروا ارضنا كزوار سمائيين وكنجوم اضاؤا ليل هذا العالم، وقد تأيد بمعجزات ورؤى وتجليات معزية فتحت امامه الأبواب بسعة ، منذ ان كان راهباً صغيرا وحبة خردل ، ليحسب نفقته غير عابئ بالصعاب.
نال مواريث اباء البرية الذين صنعوا من نفوسهم واجسادهم وكرامتهم قمصانا مطروحة في طريق الرب، وصاروا طغمة ذبائح وعروش ، تاركين اضعاف من ارواحهم لعمار البراري والاديار القبطية فكمل الله بهم مقاصده للكنيسة وللرهبنة وللتاريخ.
 
لم يصر انبا ايساك راهباً ولا حبيسا ولا متوحداً فقط، لكنه صار شهيداً بغير سفك دم، قدم شهادة يومية وبقى لسنوات وسنوات في صفوف المذبوحين ، معتكفاً لكي وبهذا يصير اكليله مضفورا  كأعمدة الدخان معطر بالمر واللبان وكل اذرة التاجر، ممتثلا  لطاعة الكنيسة وغالباً للعالم و رئيسه، هكذا كان وعد الله من جهته كما كان من قبل للقمص بولس المحرقي (انبا ابرام اسقف الفيوم القديس) وللقمص مينا المتوحد (البابا القديس انبا كيرلس)
 
 أعطى بحياته ايقونة حية للصبر واحتمال المضرات والاتعاب والثبات في الموضع، لذا استحق مزيدا من البركات التي من فوق مقابل تقواه وامانته وهي لا تغيب عن عين الله الفاحصة ليلا ونهاراً. أبوته ايضا وتعليمه وكتاباته وحياته التي عاشها بايمان ناري وعقل ممتلئ بالمسيح كانت ملء السمع والبصر، وعزيمته المأمونة والصحيحة رافقته حتى النفس الأخير.. وخطاه الثابتة على قمم الكمال صيرته عموداً في برية مصر ومعيارا للحكم في  الامور والافراز والتمييز الملهم من الله ؛ الذي ضمنه فهما وعلما  وقد عزاه في مذلته - واذكر انني عندما طلبت منه تسجيل بعض من ذكرياته ، قال  لي انا  انسان عادي ولا يوجد عندي مايستحق الذكرى !!  ، حاسباً انك تراب ورماد  ..  عازفا عن كل مسرات الدنيا صانعاً مسرات الملك كأمين سره الذي جعل سيرته مستترة في السماويات.
 
عندما اتى لتدبير الرهبان في تعمير جبل القلالي كان بحق سليل انطونيوس وآموناس وبفنوتيوس ومكاريوس ، مدبرا تدبير القديسين ، ملازما للملائكة ، مواظباً على التسبيح، خادماً مريحاً لأولاده مترفقا وخاضعاً قبل الكل للتدبير، وقد سعي لارضاء  الجميع من كبيرهم لصغيرهم ، فعمر المواضع وبني  الحجر والبشر.. وربط عمله باعمال الاولين ووحد القلوب والارواح  مع كل  طوبة وحجر بناه ،  ليرتفع كمنارة نحو السماء ضمن ملحمة كنيسه الدهور القبطية، واخيرا حصد الاكليل وعبر حيث مواضع النياح في الراحة الأبدية.
 
كنت قد تنقلت من الزقازيق لبرية شيهيت للقاهرة ثم الى لندن وسان فرنسيسكو ثم للاسكندرية وايضا الي كرازة افريقيا ثم إلى بنها رجوعا إلى شيهيت واخيرا في جبل القلالي، فلم يكن لك ارادة أو مشيئة خاصة ، مسافراً مجتازا حاملا روح السفر والعبور والغربة والانتقال والترحال كالعبرانيين في البرية متطلعاً إلى الوطن الافضل في النهاية السعيدة  . بعد ان اجترت الأمكنة والظروف بالخضوع المطلق لإرادة التدبير، مصلوبا عن العالم، متصاغراً عن سنك حتى لا تكرم كشيخ متصاغراً عن علمك حتى لا تكرم كحكيم متصاغراً عن بحثك وترجماتك ومؤلفاتك حتى لا تحسب بين المعلمين ، متصاغراً عن مواهبك الأبوية التدبيرية حتى لا تعد  ضمن اباء البرية الكبار وانت حاملاً سجايا الوحدةً ونسك الجبال المقدسة.
 
عند رحيلك من العالم كنت قد سعيت لتكميل شروط دعوة الداعي، ألذي سر بك في طريقه، وكمل لك سراً بالمخافة والمسكنة كنز آنيتك الخزفية، فقد تحليت بالطاعة في خدمتك اثناء حبرية البابا القديس كيرلس  السادس (في الكلية الاكليريكية وفي خدمة العذراء قيصرية الريحان وفي خدمة كنيسة عذراء الظهور بالزيتون) وايضا ثقة البابا شنودة الثالث الذي جعلك (وكيلا لبطريركية الاسكندرية وراعياً لكنيسة مارمرقس لندن ثم في سان فرنسيسكو ثم اختيارك اسقفاً مساعداً للقليوبية...) وفي هذه جمعيهعا عزاك الرب بالرؤى والتعزيات حتى تتقو في التعب والاسفار وصعود سلم  يعقوب السري.
 
رقادك صار مخزنا وخزانة للأعمال والافكار والكتابات والاقوال التي سجلتها تحت نظر الله إلهك الذي خدمت مجده في كل شئ، وكان لي شرف معرفتك منذ السبعينيات وقت ان كنت وكيلاً لبطريركية الاسكندرية (القمص ويصا السرياني) واحسب نفسي محظوظا ،  فقد حظيت بالفتات من تسجيل ذكرياتك القدسية ، و ايضا بحفظ لمحات من تراثك الوعظي لمدرسة تيرانس  للتعليم اللاهوتي و الوعظ  .. واشكر الله اني شاركت في تكفينك بوعد سابق منك.. وجميعنا نشهد ان فيك تتم تأكيدات ان عصر الاباء لم ينته في كنيستنا ام الأولاد الفرحة.
 
انبا ايساك في لحظات انتقالك رتبت ودعاك لديرك ولقلايتك ولتلاميذك الرهبان الذين تجمعوا حول سريرك وقد باركتهم  وباركوك ، واوصيتهم بما عشته بتبادل الطاعة وحفظ المحبة الاخوية ، لتكميل عمار مابدائته ..  متحابين بحرية السيرة  والتخلي الواعي وتجنب العثرات والتذمر والنقد والتشبث الهدام. ومن العجيب انك سبق واخبرت مقدما ان تحنيزك سيكون مرة في الكنيسة المرقسية السكندرية الموضع الذي كنت فيه وكيلا للبطريركية والثانية في الموضع الذي بنيته لتوصل مجد اباء نتريا والقلالي .
 
 لذلك ملئنا الرجاء في تجنيزك بان خدمتك التي كانت بين يديك ستصير ضعفين ونصيبك سيصبح نصيبين ،  وان رضاك بالقليل سيكمل طريق الوفرة والكثرة ،  لان شكرك واحتمالك اضحى لنا دليل نصرتك وانتاجك لمجد الله.