د. سامح فوزى

فى الفترة الأخيرة، وتزامنًا مع التحديات الاقتصادية وزيادة حدة استهداف الدولة المصرية، اتجهت أصوات معروفة بانتمائها للإسلام السياسى إلى إحياء المشروع الطائفى الذى توارى عن المشهد العام طيلة العقد الماضى، وهو ذات المشروع الذى كان حاضرًا بقوة فى تسعينيات القرن الماضى، والسنوات العشر الأولى من الألفية الثالثة، وعنوانه الأساسى التحريض الطائفى، بهدف تقويض دعائم الدولة، ويتمثل فى إحداث التوتر الدينى، والإثارة الطائفية، وبث الشائعات بين المسلمين والأقباط، وهو المشروع الذى تكشفت أبعاده بعد 25 يناير 2011.

ففى الوقت الذى تطلع فيه المصريون إلى دولة مدنية ديمقراطية حديثة، تصاعدت الأصوات الداعية إلى تقسيم المجتمع على أساس دينى، وممارسة الاستعلاء فى مواجهة المختلفين بما فى ذلك المسلمون الذين لا يوافقون الإسلام السياسى فى غاياته واتجاهاته. وبلغ الأمر ذروته عندما شعر قطاع عريض من المصريين، مسلمين وأقباطاً، بأن الوطن لم يعد يسع تنوعهم فى ظل عام من حكم الجماعة، وبلغ التهديد ذروته فى منتصف أغسطس 2013 عندما اتجه انصار التيار الإسلامى بتفريعاته المختلفة إلى حرق وتدمير نحو تسعين كنيسة، ومبنى كنسيا، إلى جانب الاعتداء على مبانى ومنشآت الدولة. هناك الآن من يريد إحياء هذا المشروع الطائفى بكل أبعاده، والأمثلة على ذلك كثيرة.

هناك منابر إلكترونية تحرض على المسيحيين، وتستغل حالات التحول الدينى الفردية والمتناثرة فى نشر الكراهية والاحتقان، والمساجلات العقائدية، وتأليب المسلمين على شركائهم فى المواطنة من الأقباط، وبث الشائعات والروايات المكذوبة، والافتئات على المؤسسات والرموز الدينية، الإسلامية والمسيحية على حد سواء. ويكفى أن المنابر التى تهاجم الدولة المصرية، هى ذاتها، وفى الوقت نفسه، التى تروج المشروع الطائفى، مما يعنى أن هناك تلازمًا فى تصورات القائمين عليها بين إحداث الفوضى السياسية والانفلات الدينى.

ومما لا شك فيه أن المشروع الطائفى، مهما ارتدى مسوح المعارضة أو الديمقراطية، هو فى أعماقه يروج لثقافة العنف والتعصب والكراهية فى المجتمع، ويقف مناهضًا لما قامت به الدولة المصرية طيلة السنوات الماضية من جهود متلاحقة لترسيخ المواطنة، شملت التصدى إلى العديد من المشكلات الموروثة منذ عقود بدءا من مواجهة الخطاب الطائفى، والعقبات التى تعترض بناء وترميم الكنائس، والحرص على التمثيل السياسى الملائم للأقباط فى الهيئات المنتخبة، فضلا عن الاحتفاء بالثقافة القبطية التى تُعد أحد روافد الثقافة المصرية، وتأكيد أن علاقات المواطنة لا تقوم على المواءمة السياسية، بل استنادًا إلى حقوق وحريات المواطنين فى إطار الدستور والقانون، وتحرص القيادة السياسية على توجيه خطابات ايجابية غير مسبوقة فى مجال المواطنة فى المناسبات المسيحية، وتجاور الكنائس مع المساجد فى المجتمعات العمرانية الجديدة، والاهتمام بمسار العائلة المقدسة فى إدراك أرحب للتعددية الدينية، ووقف جميع صور الإثارة الطائفية.
 
وقد شكل موقف القيادة السياسية من تعزيز المواطنة فى المجتمع إشارات واضحة إلى جميع الهيئات والمؤسسات بالمضى على هذا النهج، والتخلى عن أى ممارسات أو توازنات بيروقراطية متوارثة، وهو ما تمثل فى مبادرات مهمة قامت بها الهيئات الثقافية والاجتماعية لتعزيز المواطنة بمختلف أبعادها فكرا وسلوكا.
 
ويُعد ذلك علامة بارزة فى توجهات الدولة المصرية فى الاهتمام بالتراث الدينى المصرى، وهو ما تجلى فى الاهتمام بالتراث الإسلامى والقبطى واليهودى، باعتباره تراثًا للمصريين جميعًا. ومن اليسير على أى باحث منصف فى مجال الحالة الدينية أن ينظر إلى كثافة التحولات الكمية والكيفية التى حدثت فى السنوات الأخيرة، والتى لم تعد تقتصر على العلاقات الرسمية بين المؤسسات الدينية فقط، بل امتدت إلى مبادرات مجتمعية، وتجارب تنموية مشتركة، وتعاون بين الجمعيات الأهلية، وعلاقات إنسانية أفضل.
 
ليس هذا فحسب، بل إن مفهوم المواطنة فى ظل مشروعات التنمية الكبرى اكتسب معنى شاملا، أخذ فى اعتباره الحقوق الاقتصادية والاجتماعية وقضايا المرأة والطفل وذوى الاحتياجات الخاصة. وقد قمت العام الماضى بتوثيق العديد من تجارب المشاركة المجتمعية فى التنمية فى عدد من المحافظات، فى مبادرة من الأمانة الفنية للجنة العليا لحقوق الإنسان، كشفت أن هناك نسيجًا اجتماعيًا واعيًا متسامحًا تشكل على المستوى المجتمعى، وتعزز فى مواجهة القوارض الطائفية التى تسعى إلى تمزيقه.
 
هذا هو مشروع دولة المواطنة، الذى ينبغى أن نسير فيه، ونواصل العمل عليه، ونكمل الخطوات التى بدأت، فى مواجهة مشروع الطائفية الذى يريد بث ثقافة التمييز والكراهية، والانقضاض على الدولة ذاتها.
نقلا عن المصرى اليوم