في مثل هذا اليوم10 سبتمبر1923م..
سامح جميل
أبواه:
كان أبوه درويش البحر بحاراً فقيراً له ورشة صغيرة في كوم الدكة وكان يصنع القباقيب والكراسي الخشبية ويحصل على رزقه هو وأسرته بصعوبة شديدة، وكان أمياً لا يقرأ ولا يكتب وكانت أمه أسمها (ملوك) كانت سيدة من أسرة فقيرة أيضاً وكانت أمية هي الأخرى وكانت قد سبقته الى الدنيا شقيقتان تكبرانه قليلاً.
حي كوم الدكة:
حي من الأحياء الشعبية الفقيرة يسكن فيه عمال المعمار من بنائين ونجارين ونقاشين.. الخ، ولهذا الحي تاريخ مجيد في النضال الشعبي ضد الغزاة الأجانب وضد الولاة الأتراك.
نشأته:
كان أبوه يريد أن يراه شيخاً معمماً يحفظ القرآن ويجوده وأدخله كتاب حسن حلاوة بالحي نفسه فتعلم مبادئ القراءة والكتابة وحفظ قسطاً من القرآن الكريم وكان شغوفاً في طفولته بالاستماع الى الشيوخ الذين يحيون المولد النبوي ويحفظ عنهم ويقلدهم أمام أطفال الحي.
وفي سن العاشرة كان قد أجاد القراءة والكتابة وحفظ قسطاً كبيراً من القرآن وعندئذ توفى أبوه فصممت أمه على أن يتم تعلمه كما أراد أبوه ونقلته الى مدرسة أولية تصادف من كان فيها معلم يهتم بتحفيظ الأطفال الأناشيد الدينية والقومية وأسترعى الطفل سيد درويش انتباهه فخصه بعنايته وجعله يقود الأطفال في ترتيل الأناشيد، ونمت معه موهبته وخرج من حدود الحي وأصبح يرتاد الأحياء الشعبية الأخرى ويستمع الى مشاهير الشيوخ المقرأين والمطربين الذين يحيون الأفراح والمواليد الدينية واشترت له أمه ملابس رجال الدين وهو غلام في الثالثة عشر من عمره وتقدم للالتحاق بالمعهد الديني التابع لأحد مساجد الإسكندرية وهو مسجد (العباس- المرسى) لكي يتم حفظ القرآن وتجويده، وكان شغوفاً بالقراءة والإطلاع ويقرأ كل ما يقع في يده من كتب وصحف عربية.
بدء حياته الفنية:
وفي سن الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة وجد انه يستطيع أن يكسب عيشه وعيش أسرته من الغناء في الأفراح والموالد بما حفظه من التواشيح والأناشيد الدينية فتوقف عن الدراسة وتفرغ للغناء والإنشاد وكان بالطبع مقلداً لمشاهير المطربين والمقرئين.
وجاءت الأزمة الاقتصادية العالمية في سنة 1907 وما بعدها فكسدت سوق الفنانين وأصيبوا بالبطالة، ولما كان سيد درويش قد أصبح المسؤول عن أمه وشقيقاته فقد خلع ملابس الشيوخ واشتغل مع عمال المعمار مساعد نقاش مهمته أن يناول النقاش المونة، وفي أثناء العمل كان يغني فكان العمال الذين يشتغلون في البناء يطربون أشد الطرب ولاحظ المقاول أن العمال ترتفع معنوياتهم ويزيد إنتاجهم إذا كان العامل سيد درويش يغني لهم، فطلب إليه أن يتوقف عن العمل وأن يكتفي بالغناء للعمال.
وكان أمام العمارة التي يشتغل عليها مع زملائه مقهى متواضع تصادف أن جلس فيه ممثل أسمه أمين عطا الله (وكان ذلك سنة 1908) وعن شقيق سليم عطا الله صاحب الفرقة التمثيلية التي تعمل في الإسكندرية وسمع صوت هذا العامل الفنان وسرعان ما تقدم إليه وعرض عليه العمل في فرقة أخيه ولم يتردد سيد درويش والتحق بالفرقة ليغني مع الكورس وليؤدي منفرداً بعض الأغاني بين فصول المسرحية.
وفي السنة نفسها سافر مع الفرقة الى لبنان ولكن الفرقة فشلت ولم تلق إقبالاً بسبب سوء الأحوال الاقتصادية وتشتت أفراد الفرقة وظل سيد درويش ببيروت ودمشق وحلب يكسب عيشه بقراءة القرآن في المساجد ويبحث عن أساتذة الموسيقى ليتعلم عليهم أصول الموسيقى الشرقية ويحفظ عنهم التراث القديم كله.
وبعد أن قضى في الشام قرابة تسعة أشهر عاد الى الإسكندرية واستمر يشتغل بالغناء والإنشاد في الأفراح والموالد والمقاهي الشعبية حتى أعتاد سليم عطا الله تأليف فرقته التمثيلية سنة 1910 فأنضم سيد درويش إليها.
الرحلة الثانية:
وفي خلال عمله بالإسكندرية بعد عودته من لبنان خرج من دائرة التقليد وترديد ألحان الآخرين وبدأ يؤلف ألحانه الخاصة ولكنه بسبب صغر سنه كان يخشى أن يجاهر بأنه يؤلف الموسيقى فكان ينسب الألحان الى الملحنين المشهورين فكانت تقابل بالاستحسان الشديد.
ثم سافر مع سليم عطا الله الى لبنان في رحلتها الثانية التي نجحت هناك نجاحاً مكنه من البقاء هناك فترة أطول (أكثر من سنة) حضر فيها على كبار أساتذة الموسيقى ومنهم الشيخ إبراهيم الموصلي استكمل فيها دراسة علوم الموسيقى العربية وحفظ عن ظهر قلب حفظاً كاملاً كل التراث العربي، ثم عاد الى الإسكندرية سنة 1912 واستمر يعمل في الأفراح والمقاهي الشعبية واستفاضت شهرته وبدأ يجاهر بأنه ملحن ويقدم للناس ألحانه بنفسه وكانت تقابل بالاستحسان وتنتشر على ألسنة الناس.
في القاهرة:
وجاءت أخباره الى القاهرة وتردد أسمه في الأوساط الفنية فكان كبار فناني القاهرة إذا زاروا الإسكندرية يبحثون عن المقهى الذي يغني فيه الشيخ سيد درويش ليسمعوه، ومن هؤلاء الفنانين المغني المشهور الشيخ سلامة حجازي الإسكندري الأصل الذي كان صوته أجمل وأقوى الأصوات في عصره حتى أنه عندما جاء مغني الأوبرا الإيطالي كاروزو الى القاهرة لإحياء موسم فيها سمع عن سلامة حجازي وذهب الى المسرح الذي كان يغني فيه، وعندما سمعه قال: "الحمد لله لو ولد هذا الرجل في أوروبا لما أحتل كاروزو مكانة أعظم مغن في عصره.
سمع سلامة حجازي صوت سيد درويش وألحانه فذهل وتعرف به وشجعه على الحضور الى القاهرة ليقدمه على مسرحه، وفعلاً حضر سيد درويش وقدمه سلامة حجازي للجمهور بين فصول الرواية التي كانت تمثلها فرقته وغنى سيد درويش من ألحانه غناء لم يكن مألوفاً وقتها ولكن الجمهور لم يرض عنه خصوصاً وأن صوته لم يكن في جمال صوت سلامة حجازي فقوبل بالصفير والاستحسان مما جعل سلامة حجازي يخرج من خلف الستار ليقول للناس ان هذا الفتى (وكان عمره قرابة العشرين) هو عبقري المستقبل.
العودة الى الإسكندرية:
وحزن سيد درويش لفشله وعاد الى الإسكندرية واستمر يعمل فيها سنوات الحرب العالمية الأولى وكان إذا كسد سوق الغناء ينتقل الى العمل عاملاً او كاتب حسابات في متجر للأثاث القديمة يملكه زوج أخته الكبرى.
وفي خلال عمله الغنائي هناك كان أسمه يتردد في القاهرة على انه ملحن صاحب اتجاه جديد في التلحين، وكانت في القاهرة فرق تمثيلية عدة بعضها يقدم ألواناً هزلية مطعمة بأغان موزونة على (قده) ألحان بسيطة يونانية أو تركية وبعضها يقدم مسرحيات درامية او تراجيدية، وهذه الأخيرة كانت توجد فرقة الممثل التراجيدي الكبير جورج أبيض الذي ضعف الإقبال عليها لأن أحزان الحرب كانت توجه الناس الى اللون الكوميدي للتسلية والترفيه عنهم، ورأى جورج أبيض أن يحول فرقته الى اللون الكوميدي الاستعراضي الغنائي واستدعى سيد درويش من الإسكندرية وكلفه ان يلحن له أول أوبريت باسم (فيروز شاه).
أول أوبريت:
وقبل سيد درويش هذه المهمة وانتقل الى القاهرة وألف ألحان هذه الأوبريت التي كانت شيئاً جديداً تماماً على الموسيقى العربية، ولم تلبث أن أخذ الناس يرددونها وخصوصاً الفنانون المشتغلون في المسارح الغنائية الأخرى، وسمع نجيب الريحاني وهو ممثل كوميدي مشهور وصاحب فرقة مسرحية، سمع بعض أفراد فرقته يغنون في أوقات راحتهم بين البروفات ألحاناً غريبة وجديدة فسألهم عنها ولما عرف قصة هذا الملحن الجديد أسرع بالتعاقد معه ليلحن له أوبيرتاته وألف له ألحان ثاني أوبريت وأسمها (ولو..).
انتشار صيته:
وكانت ظاهرة غريبة إذ انتشرت ألحان هذه الرواية الثانية انتشاراً هائلاً حتى كان يرددها الأطفال في الشوارع والعمال في المصانع والفلاحون في حقول الريف، ولذلك تهافت عليه أصحاب الفرق فكان يؤبف لهم ما يطلبونه إذ أعجبه موضوع الرواية وأعجبه الشعر الشعبي للألحان.
وجاء وقت كانت توجد في القاهرة أربع فرق وعدة صالات للغناء كانت كلها تقدم أوبيرتات من تلحينه.
فرقته الخاصة:
وتضايق من المعاملة الاستغلالية لأصحاب الفرق فكون فرقة خاصة باسمه قدم بها روايتين أحداهما باسم (شهرزاد) والثانية باسم (البروكة)، وكان يؤدي بنفسه دور الفتى الأول.
1- لجهله بشؤون إدارة الفرق والدعاية.
2- ولوجود مسرحه في حي سيئ السمعة يكثر فيه وجود العساكر الاستراليين والانكليز الذين كانوا يعتدون على الناس ويسرقون نقودهم، لهذه الأسباب كان الإقبال ضعيفاً على فرقته الخاصة فاضطر الى حلها وعاد الى التأليف للفرق الأخرى.
مؤلفاته:
في الفترة القصيرة بين حضوره الى القاهرة سنة 1917 وبين وفاته في 15/سبتمبر سنة 1923 وضع ألحان 22 اوبريت والفصل الأول من أول أوبرا شرع في تلحينها بعنوان (كيلوباترا ومارك انطونيو).
وفي خلال حياته الفنية بين الإسكندرية والقاهرة ألف عشرة أدوار للتخت، وهي عبارة عن سيمفونيات عربية و17 موشحاً على النمط القديم ولكن بروح جديدة نحو 50 طقطوقة وهي الأغاني الخفيفة.
وفاته:
وفي قرابة منتصف ايلول سنة 1923 سافر الى الإسكندرية ليكون في استقبال سعد زغلول الزعيم الوطني العائد من المنفى وليحفظ طلاب وطالبات المدارس النشيد الذي لحنه لاستقباله، ولكنه أصيب بنوبة قلبية مفاجئة في مساء 14/سبتمبر ومات فجر 15/سبتمبر في بيت شقيقته.
وفي وسط الاحتفالات الشعبية المهرجانات الوطنية المقامة في الإسكندرية لاستقبال سعد زغلول لم يشعر أحد بوفاة أعظم عبقرية مصرية ظهرت في العصر الحديث وشيعت جنازته في احتفال متواضع لم يشيعه فيه الا عدد قليل جداً من أهله وأصدقائه.
شخصيته وأخلاقه:
يقول معاصروه وأصدقاؤه الأحياء وتزيدهم الصور الفوتوغرافية انه كان ممتلئ الجسم قوي العضلات وكان وجهه وسيماً سمحاً وكان مزاجه مرحاً ضاحكاً متفائلاً يميل الى السخرية الجميلة الذاكية من دون مرارة ولا حقد وكان طيب القلب شديد الولاء لأصدقائه ولكل الناس كريماً مفتوح الكف عطوفاً على الفقير والضعيف وكان ذكي العقل والقلب المعنى الفهم حساساً الى أبعد حدود الحساسية، سريع الانفعال سريع النسيان وكان يخص أمه بحب يقرب العبادة ويدللها كأنها طفلة صغيرة، وكان جذاب الشخصية جميل الحديث سريع النكتة.
وبرغم أنه كسب كثيراً من الذهب فانه لم يدخر شيئاً فلم يكن يخاف المستقبل ولم يكن يطمع في مستوى معيشة يبعد به عن الطبقات الشعبية التي ولد وتربى فيها، ولهذا كان يتخلص أولاً بأول من كل ما يكسبه فبعد أن يكفي نفسه وأسرته بما يجعل بيته شبعانا مستوراً سعيداً، كان يسد حاجة المحتاج من أصدقائه او من زملائه الفنانين ثم من الناس الذين لا يكاد يعرفهم وكان يصرف الباقي على مجالات أنسه والهامة وغالباً ما تكون بين أصدقائه وأحبابه.
وفي هذه الصفات تروى الروايات وتحكى الحكايات التي تدل على إنسانيته العميقة وقلبه الكبير، ولم تكن له نزوات غير مفهومة كتلك التي يصاب بها الفنانون، ولكن نزواته كلها كانت مفهومة بمعنى انها لم تكن شذوذاً ينفرد به وحده كذلك الموسيقى الذي كان يحب ان يحمل على كتفه عدداً كبيراً من أواني الصفيح ويلبس قبقاباً خشبياً ويسير هكذا في الطريق أو يقصد هكذا على الرصيف.
اما السيد درويش فلم تكن له نزوة من هذا القبيل وكل ما روي عنه عبارة عن هواية معينة ولكنها هواية بناءة لأنه كان يحب إصلاح أقلام الحبر وكان يتقن هذا العمل برغم انه لم يكن من المهن التي احترفها من قبل.
وكان يمضي سهراته في الأحياء الشعبية ويخالط الناس البسطاء من عمال وباعة وحرفيين وحوذيه ولم يفكر أبداً في الانتساب الى طبقة أعلى من طبقة أسرته، بل ظل على ولائه وحبه للكادحين حتى مات.
ويروى عنه انه في يوم افتتاح مسرح الازبكية وكان قد لحن له أوبريت (هدى) كان الوزير المختص بالمسارح – وقتها وزير الاشغال- يشرف حفل الافتتاح، وبعد إنزال الستار على الفصل الأخير جاء مدير الفرقة يهرول الى الكواليس ويزف الى سيد درويش خبر إعجاب معالي الوزير بموسيقى الرواية وأن معاليه يستدعيه الى مقصورته ليهنئه، ولكن سيد درويش أدار ظهره للمدير وسحب صديقه من يده وذهب به الى حي شعبي عتيق سهرا فيه مع لابسي الجلابيب.
اتجاهاته الفنية:
لم ينل سيد درويش أي تعليم مدرسي في الموسيقى سوى القليل الذي أصابه من التحاقه بضعة شهور بمدرسة إيطالية للموسيقى في الإسكندرية، اما كل ما تعلمه فكان من الاكتساب، اما عن استماعه لمشاهير المقرئين والمطربين، وأما من حفظه عن الموسيقيين القدماء في الإسكندرية وبيروت وحلب والقاهرة، وأما من قراءاته في كتب الموسيقى العربية القديمة وقد روى انه بدأ يتعلم الموسيقى من كتاب اشتراه بائع يعرض كتبه القديمة على رصيف الشارع، وبينما كان سيد درويش ينظر في فترينة هذه المكتبة الفقيرة ليختار كتباً في التاريخ والشعر والأدب وقع نظره على كتاب صغير أصفر الورق وكان في الموسيقى وطلب منه البائع خمسة مليمات أعطاها له وذهب بهذا الكنز الى بيته وأنكب عليه يلتهم ما فيه وذهب فاشترى عوداً قديماً وشرع يتعلم العزف عليه مسترشداً بالكتاب، وفي سن مبكرة جداً (حوالي سن الخامسة عشر) وجد انه قادر على تأليف الموسيقى أو بمعنى آخر وضع الألحان والكلمات الشعرية الفصحة او العامية فأخذ يلحن ووجد انه يلحن أشياء جديدة تختلف عما كان سائداً فتخوف لصغر سنه وقلة تجربته ان يعرض نفسه للسخرية إذا جاهر انه صاحب اللحن أو على الأقل للتكذيب والأفكار ولهذا بدأ ينسب ألحانه لملحن ومغن شهير وقتها أسمه إبراهيم القباني فلما أعاد التجربة ووجد ان هذه الألحان تنال استحسان الناس بدا يقدم نفسه كمؤلف، وكان من الطبيعي لعبقري هذا تاريخه وهذه بيئته وهذه مواهبه وأخلاقه كان من الطبيعي أن يخوض ببيئته معار لشعب كلها من وطنية الى اقتصادية الى اجتماعية، ولهذا اتجهت اعماله كلها هذه الوجهة تعرض وتدا فع عن كل القضايا التقدمية، ولذلك فان كل ألحانه وأهداف اوبريتاته كانت أهدافاً وطنية عامة كما كانت في الوقت نفسه تعكس بشدة مطالب الطبقات الكادحة بجميع فئاتها.
لقد كان زعيم ثورة 1919 هو زعيم البرجوازية الوطنية التي كانت تقود الكفاح السياسي ضد الاحتلال البريطاني ولكن كان الى جانب سعد زغلول يوجد زعيم شعبي آخر هو سيد درويش بكل قوته في المعركة الوطنية ولكن بمفهومات أخرى هي ان الشعب لا يرتمي بكل نفسه وما يملك في أتون المعركة الوطنية ليحصل على استقلال بلده فحسب وإنما ليحصل أيضاً على حقوقه في الحياة الكريمة التي تحققها خيرات بلده، هذه الخيرات التي ينتجها جهده وحده وعرقه وكدحه ومواهبه.
ثم كان من الطبيعي وذلك هو موضوع موسيقى سيد درويش ان يتخذ أسلوباً أو شكلاً تعبيرياً يختلف كل الاختلاف عن الأساليب والأشكال السابقة، لأن الثورة في الموضوع استتبعت الثورة في الأسلوب وهذا انطلقت الموسيقى العربية الحبيسة خارجة من معتقلها في تصور أمراء الإقطاع الى الهواء الطلق والأفاق الرحيبة وإذ تحطمت القيود التي كانت تربط الموسيقى العربية الى ذلك العالم المحدود الأشواق، وصل الأمر بذلك الثائر الجسور المقتحم الواثق من عبقريته الى ان يستعمل في بعض ألحان اوبريتاته المتأخرة مثل (شهرزاد) و(البروكة) (قالب الهرموني ) (الكونترابونت) التي لم تعرفها الموسيقى الشرقية من قبل.
وما زالت اعمال سيد درويش في هذا الباب هي الأولى والأخيرة فلم يتجاسر بعده حتى اليوم احد من الملحنين على أن يخطو خطوة نحو هذا الباب العريض من أبواب الموسيقى، والمجال هنا يضيق. ان استيعاب جميع جوانب الثورات التي أحدثها سيد درويش في الموسيقى العربية عموماً وفي الموسيقى الشرقية خصوصاً لأنه أمر يطول شرحه.!!