كمال زاخر
يظل الاقتصاد القضية الأولى بالتحليل والبحث عن مخارج تخرج بنا إلى حالة الكفاية ثم إلى حالة الوفرة، وهى قضية ملازمة للوجود الإنسانى حيث الحاجات متعددة والموارد محدودة، لذلك فالدول الرشيدة هى التى تستطيع أن ترشِّد احتياجاتها، وتعظم مواردها.. هكذا يوجز الاقتصاديون تعريف علم الاقتصاد، إنه ذلك العلم الذى يبحث فى كيفية إدارة هذه المفارقة.
على الأرض نكتشف أن الاقتصاد بهذا المعنى هو الذى يشكل ويكتب التاريخ، ويرسم سياسات الدول، ويفسر الحروب ويكشف دوافع الحراك الاستعمارى بأشكاله المختلفة، وتطوراته، ومبرراته المعلنة والخفية، لننتهى إلى أن الموارد الطبيعية، المواد الخام، المتوفرة فى دول الجنوب كانت الحافز الأكبر للدول الصناعية الكبرى للسيطرة عليها، سواء بشكل مباشر كاستعمار تقليدى، أو بربطها بتحالفات واتفاقيات هى فى غالبها تحالفات واتفاقيات إذعان، مع بقاء الفقر سائدًا فيها حتى لا تقوى على المطالبة بالتحرر والاستقلال.
وسط كل هذا تبقى التجربة المصرية متفردة بتراكماتها منذ اللحظة التى باغتتها فيها الحضارة الغربية مع صدمة الحملة الفرنسية، والتى لم تمكث طويلًا فرحلت لكنها خلفت وراءها آثارًا إيجابية، بعد أن انتبه المصريون إلى حاجتهم لنفض ركام البيات العثمانلى الجاثم على مقدرات البلاد والناهب لها لنحو أربعة قرون.
تتعدد التجارب من محمد على إلى الأسرة العلوية صعودًا وهبوطًا، إلى تجربة يوليو بتنويعاتها وامتدادتها وتقلباتها، من القرارات الاشتراكية، ومن نكسة يونيو ٦٧ إلى انتصار أكتوبر ٧٣، لكن الارتباك لم يفارق تجاربها الاقتصادية ما بين اقتصاد موجه، لم يكتمل بعد أن أسلم قياده لبيروقراطية عتيدة ومتربصة وإدارة لم تستوعب أهدافه، وكان الفساد حاضرًا ومقيمًا، وانهارت التجربة برحيل صاحبها ربما لأنه لم ينتبه إلى قيمة الديمقراطية وقبول التعدد والتنوع والاختلاف، فاختزل الوطن فى شخصه، فى تماهٍ لافت ربما نتفهمه عندما نقرأ أن أديبه المفضل كان توفيق الحكيم وروايته الأثيرة "عودة الروح" والتى كتب الحكيم فى تصديرها عبارة "حين يصير الزمن إلى خلود، سوف نراك من جديد، لأنك سائر إلى هناك، حيث الكل فى واحد".
كانت جملة ملهمة للزعيم فى بحثه عن الخلود فسعى لأن يكون الكل فى واحد رأيًا وفكرًا فى خضوع للزعيم، لكنه كان اختيارًا ضد طبيعة حراك الحياة، ولم تكن هناك يوتوبيا المدينة الفاضلة، فكان ما كان.
على نقيض يشبه عملية البسترة، ننتقل من الاقتصاد الموجه إلى الاقتصاد الحر أو قل العشوائى، أُطلق عليه الانفتاح الاقتصادى، واسماه الكاتب أحمد بهاء الدين "انفتاح السداح مداح"، حيث اختلط الحابل بالنابل، وفيه وبه تم تدمير البنية التحتية لصناعات مصرية تاريخية، الغزل والنسيج، وصناعات مؤسسة للتصنيع، الحديد والصلب، وزراعات استراتيجية، القطن والقمح وقصب السكر، لتعرف أسواقنا وموائدنا أنواعًا من الفواكه المستوردة غيرت من ثقافتنا الغذائية وانعكس هذا على سلوكياتنا الاجتماعية، فى مرحلة شهدت تحالفات غير مبررة مع الجماعات الدينية المتطرفة، بعثت جماعة الإخوان من جديد، ويذهب المؤسس بعد عقد ونيف، وقد لقى مصرعه على يد من أعطاهم قبلة الحياة، ليأتى خليفته فيؤكد على تحالف ثلاثية رجال المال والجماعات والفساد، فى تجميعة لا مثيل لها، كان الاقتصاد القومى هو الضحية والذبيحة فى معبد السياسة، الغائبة والمرتبكة
اللافت أن التجربة الأولى كان مداها الزمنى نحو عقدين والثانية عقد واحد فيما امتدت الثالثة لثلاثة عقود وكانت مرشحة لمزيد لولا الغضب الشعبى الذى أطاح بالتجربة لتبدأ تجارب تالية انتهت بنا إلى حراك يؤسس لجمهورية جديدة مازالت تحاول معالجة نتائج التجارب الثلاث السابقة وتتجنب نقاط ضعفها، ولعل أهمها التأسيس لحياة ديمقراطية صحيحة، واستعادة القاعدة الصناعية التى قطعنا فيها أشواطًا لا يمكن إنكارها، وإعادة ترتيب الخريطة الزراعية لنسترد عروش القطن والقمح وغيرها، والتأسيس لتصنيع زراعى واعٍ ومتطور، والانتباه لمنظومة التعليم المهنى الصناعى والزراعى والخدمى على قواعد متطورة بالتعاون مع الكيانات ذات الصلة فى السوق المصرية، والتى توفر قاعدة لوچيستية كبيرة لإعداد وتدريب الفنيين كلٌ فى مجاله، عبر بروتوكول مع وزارة التعليم الفنى، التى قامت كوزارة مستقلة ثم أُدمجت فى وزارة التعليم، ولعلها تعود كوزارة دولة حتى لا تحمل بأعباء بيروقراطية ومالية تعوقها، ويكون لها منافذ اتصال وتنسيق مع الكيانات الصناعية والخدمية والزراعية الكبرى التى تتيح لها أماكن لتعليم وتدريب وتأهيل الأيدى العاملة بكفاءة عالية. وهذه المؤسسات الداعمة هى فى مقدمة المستفيدين، من توفير أيدٍ عاملة مؤهلة علميًا ومهنيًا ومدربة، بتقليل نسبة الفاقد من منتجاتها، والخروج بها إلى المنافسة فى السوق العالمية، بجودة عالية وأسعار منافسة والتزام فى التوريد. فتسترد العملة المحلية عافيتها وتستقر الأسعار وندخل فى دائرة الرفاة.
نقلا عن البوابة نيوز