حلمي النمنم
في السنوات الخمس الأولى من حكمه، كان التواصل قائمًا بين الرئيس حسنى مبارك وزميله القديم في السنة الأولى بالكلية الحربية وسنوات العمل الأولى محمد فائق، كان هناك الكثير من اللقاءات بينهما، كما ورد في مذكرات محمد فائق التي صدرت مؤخرًا بعنوان «مسيرة تحرر»، ساعد على ذلك التواصل العديد من العوامل مثل أن كلًا منهما يستيقظ مبكرًا.
وأن بيت محمد فائق قريب جدًا من الاتحادية، في أول لقاء جمعهما حرص الأخير على أن يؤكد للرئيس أنه لم يفكر ولا خطط لقلب نظام الحكم في مايو ٧١، رد الرئيس أنه متأكد من ذلك، وأنه يعرف كل شىء، ولذا لا احتفالات بعد ذلك بما سُمى ذكرى ثورة التصحيح، في المقابل حرص مبارك على أن يؤكد لفائق أنه لم تكن له علاقة باعتقاله ضمن قوائم المتحفظ عليهم يوم الخامس من سبتمبر ٨١.
يذكر فائق في مذكراته (ص ٢٨٠، ٢٨١) واقعة وتفاصيل تؤكد أن القائمة كانت تضم المتطرفين والمتشددين دينيًا فقط، وأن السادات هوّن من شأن السياسيين والحزبيين بالقياس إلى المتشددين، وأن السيدة الأولى فوجئت وانزعجت من اعتقال السياسيين، وكذلك كان موقف نائب الرئيس، فيما بعد وفى حوار مطول مع مجلة «المصور»، ذكر الرئيس مبارك للأستاذ مكرم محمد أحمد أن القائمة خرجت من مكتب الرئيس السادات وتضم أكثر قليلًا من (٢٥٠) اسمًا.
ثم ذهبت القائمة إلى عدد من المسؤولين في الدولة فوضع كلٌّ منهم خصومه ومن يرى فيهم خطرًا، حتى أن أحدهم وضع اسم وزير الخارجية السابق إسماعيل فهمى، لكن السادات حذف الاسم، الواضح أن السادات لم يكن مُصرًا على اعتقال كل هؤلاء لكنه لم
يمانع في ذلك.
.. ربما لو وجد أصواتًا، خاصةً من أولئك الذين كان يثق بهم، نبهت إلى خطورة تلك الخطوة على نظامه لتغيرت الأمور.
كانت جلسات مبارك وفائق بها قدر مما يمكن أن يدخل في باب «الفضفضة»، من ذلك أن الرئيس كرر عدة مرات أنه «ليس سعيدًا بهذا المنصب، وأنه لم يكن راغبًا فيه». يقول فائق: «... رجوته ألا يكرر هذا الحديث أمام أي أحد، فالمواطن المصرى يريد أن يرى رئيسه راغبًا وقادرًا على التزامات هذا المنصب، الذي أصبح تكليفًا شعبيًا ورسالة يتحمل مسؤوليتها».
واقع الأمر أن بعضًا من كلمات مبارك عن أنه غير سعيد بالمنصب- رئيس الجمهورية- أفلتت منه في أكثر من لقاء جماهيرى، كان الرجل في سنوات حكمه الأولى يزور بعض المحافظات والمواقع الإنتاجية، وكان يتحدث بتلقائية مع المواطنين، كانت تفلت منه أحيانًا كلمات قاسية ومباشرة، وفى سنة ٨٣ انتشرت بقوة شائعة أنه يفكر جديًا في الانسحاب بالاستقالة، لكن سبحان مغير الأحوال.
إحدى المرات طلب مبارك من فائق أن يحضر إليه ومعه شعراوى جمعة، وزير الداخلية، نائب رئيس الوزراء في بدايات حكم السادات، وأمين التنظيم في الاتحاد الاشتراكى العربى، لا أظن أن فائق فوجئ كثيرًا بهذا الطلب، قبله كان قد سمع منه العبارة التالية: «أنا ناصرى يا محمد، لكن لا أستطيع أن أقول ذلك علنًا».
ويبدو أنه كان يحمل تقديرًا أو إعجابًا خاصًا لشعراوى جمعة، المحافظ والوزير السابق. كان الرجل رغم الهجوم عليه صحفيًا سنوات السبعينيات تُروى عن كفاءته وبساطته أشياء أقرب إلى الأساطير، وذات مرة في افتتاح معرض القاهرة الدولى للكتاب كانت هناك جائزة أفضل كتاب في المعرض، تقررها الهيئة المصرية العامة للكتاب، كانت الجائزة شهادة تقدير من الهيئة، ولكن يقوم الرئيس بمصافحة الفائز، في إحدى السنوات كان بين الفائزين اسم د. سلوى شعراوى جمعة، وما إن نطق اسمها مقدم الحفل حتى انتبه الرئيس وسأل رئيس الهيئة ووزير الثقافة، بصوت مرتفع، هي ابنة شعراوى جمعة، وتهلل وجهه بإكبار، وبدا أنه يريد أن يستوقفها ويتحدث معها، هكذا كان يفعل مع البعض، لكنها هي كانت شديدة الرسمية.
في اللقاء تبين ما الذي يريده الرئيس من شعراوى، فقد طرح عليه ما يلى: «هل يمكن ضم التنظيم الناصرى والحزب الوطنى ليصبحا حزبًا واحدًا؟»، وأضاف أنه «يفكر في ذلك جديًا»- (راجع صفحة ٢٨٩).
طرح مبارك أيضًا على ضيفيه فكرة أن يتولى أحدهما مسؤولية الإعلام، أي أن يكون وزيرًا للإعلام، شعر فائق بأنه هو المقصود بهذا الطرح فسارع إلى تنبيه الرئيس مبارك بألا يستعين بأحد من رجال عبدالناصر المقربين، لأن ذلك «سوف يفتح عليك النيران من جهات عدة، ويمكننا أن نقوم بعمل كل ما تريده في مجال الإعلام من دون ظهور».
يذكر فائق أن هذين الموضوعين لم يرد ذكرهما بعد ذلك، ويتساءل: هل كان مبارك جادًا حين طرحهما في ذلك الصباح، أم أن الموضوع كله كان «بالون اختبار»؟
على وجه القطع موضوع وزير الإعلام كان في جانب منه «بالون اختبار» ومحاولة إثارة لعب واشتياق شخص ما بموقع معين تلميحًا أو تصريحًا، حدث ذلك مع عديد من الشخصيات في تخصصات مختلفة على امتداد سنوات حكمه، ذات مرة فاتح شخصية متميزة في أن يتولى حقيبة وزارية معينة، ثم جرت اتصالات بذلك المرشح لإحاطته بأنه تم تعديل الترشيح لوزارة أخرى، وبعد ساعات أُعلن التشكيل الحكومى وكان صاحبنا خارجه، بعدها وفى مناسبة ما صافحه الرئيس قائلًا: «معلش.. قلشت منك المرة دى».
وفى بعض الأحيان كان الاهتمام بشخص ما والإيحاء بأنه على وشك شغل موقع ما كنوع من الفزاعة لمن يشغله بالفعل.
وفى الثمانينيات كان رجال عبدالناصر مازالوا صغار السن، ومن ثم كانوا نظريًا وبحكم السن يمكن أن يستعين الرئيس بأى منهم، لم يكن هناك مانع قانونى ولا دستورى، يعرف المتابعون جيدًا أن اسم محمد حسنين هيكل، حتى منتصف الثمانينيات، كان فزاعة لرئاسة تحرير الأهرام، وكذلك وزارة الإعلام، فيما يخص الأهرام اعتُبرت المسألة في بيتها، هو «الأب الروحى»، والجميع سوف يكونون سعداء بعودته، هو من جانبه راح يؤكد أنه لا يفكر ولا يريد العودة، لكن المخاوف زادت حين استعان به إبراهيم سعدة ليكتب مقاله «بصراحة»، في أخبار اليوم، وقتها صرخ أحد كبار الساداتيين: «آدى دقنى لو مستثمر واحد جه البلد»، خارج المؤسسات الصحفية انتشرت شائعات عن رفض وكراهية مبارك لهيكل، وثبت أنها خرجت من ديوان وزارة الإعلام.
أما موضوع الاندماج الناصرى في الحزب الوطنى فلم يكن «بالون اختبار»، كان مبارك في البدايات لا يُعوّل كثيرًا على الحزب الذي بدا هشًا في أكتوبر ٨١، لحظة اغتيال السادات، وكشفت انتخابات البرلمان سنة ٨٤ أن الشارع ليس في حوزة الحزب، وذهب إليه د. فؤاد محيى الدين، وكان أمين عام الحزب الوطنى، يصارح الرئيس بأن الناخبين سوف يصوتون لاتجاهات أخرى، روى مبارك الواقعة في حينها لمجلة المصور، كان هناك الوفد الجديد، وكان هناك اليسار، خاصةً الناصرى، وكانت هناك جماعة حسن البنا.
في سنة ١٩٩٠، كنت أقوم بتغطية انتخابات مجلس الشعب في مدينة المنيا، مسؤول الحزب هناك كان أستاذًا جامعيًا مرموقًا، وكان من مؤسسى الحزب، وقبلها كان من رموز الاتحاد الاشتراكى، صارحنى الرجل في جلسة خاصة: «اسمع منى، مبارك لا يحب الحزب»، وراح الرجل يرصد العديد من الوقائع في التعامل مع الحزب وقياداته، بعض هذه الوقائع تكشف أن تفكير رجال الحزب أن مبارك يجب أن يُقصى الجميع، يعادى الجميع، ويسلم كل شىء لهم، من الأشياء التي ذكرها المسؤول الفاضل أن مبارك استهل حكمه بعقد المؤتمر الاقتصادى، وكانت الكلمة فيه لليسار وتم تهميش الحزب، صارحته بأن الحزب ليست فيه عقول كبيرة، وأنهم هم الذين أحدثوا الأزمة الاقتصادية.
ما سمعته في مدينة المنيا تردد على لسان البعض في القاهرة وغيرها، خاصة حين استعان الرئيس بالأستاذ الدكتور رفعت المحجوب، عيّنه في مجلس الشعب، ثم اختاره رئيسًا للمجلس.
وغنى عن القول أن بعض الساداتيين الخُلّص حاولوا مناوأة مبارك في بداية حكمه، أحدهم قابل فائق في مناسبة اجتماعية، وكان يعلم ما يقوم به وزير الإعلام السابق بتكليف من الرئيس الجديد للمساعدة في عودة العلاقات مع الدول العربية، وقال له كلامًا قاسيًا بحق هذه الخطوات، كان مبارك تواقًا لاستعادة العلاقات، لكن المسؤول الكبير زمن الرئيس السادات كان ضد ذلك التوجه.
ابتعد مبارك عن رجال الصف الأول من العهد الناصرى حتى لا يثير زوابع الغرب ضده، والتفت إلى غيرهم، واستعان بهم في الحزب وفى الحكم، لدينا أسماء مثل د. حسين كامل بهاء الدين، د. مفيد شهاب، د. على الدين هلال، د. ممدوح البلتاجى، وغيرهم وغيرهم.
تراجعت اللقاءات بعد فترة، ذلك أن فائق كان حريصًا على أن يصارح الرئيس بالكثير، ويحيطه علمًا ببعض ما يجرى في المجتمع المصرى، هذا حق الصداقة والزمالة القديمة، فضلًا عن أنه واجب وطنى، لكن مبارك أخبره بأن الفريق الماحى كان يقابله يوميًا وكان يأتيه بأخبار سيئة، ويقدم له تقارير «كلها سوداء ومتشائمة»، فقرر ألا يقابله نهائيًا.
فهم فائق الرسالة.. «أعفيت نفسى من أن أقول ما لا يريد الرئيس مبارك أن يسمعه، إلا إذا سأل هو».
وبعودة العلاقات المصرية- العربية انتهى دور محمد فائق لدى مبارك، واقتصرت المقابلات على بعض المناسبات العامة، وبقى الود قائمًا.
نقلا عن المصري اليوم