الأنبا موسى
تحدثنا في الأعداد الماضية عن بعض الأصول الدينية التي أدت إلى الوطنية المتأصلة في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية وذكرنا منها: 1- الاعتزاز بالأصل الفرعونى، 2- الاعتزاز بالكنيسة القبطية، 3- الاعتزاز باليقين القبطى، 4- التأثير التربوى للطقس القبطى. وتحدثنا عن الانتماء والوعى.. ونستكمل موضوعنا...
ج- المشاركة:
ترفض الكنيسة القبطية فكرة «الفرد» وتقبل فكرة «الشخص» أو «العضو». فالإنسان ليس مجرد رقم قومى، أو فرد منعزل، بل هو شخص له أحاسيسه، ودوره، وإسهامه، أو هو عضو لا يقوم إلا باتحاده ببقية الأعضاء، وبممارسته لوظيفته كعضو، وإلا صار «زائدة» يمكن استئصالها دون أن يفقد الجسد شيئًا.
والأعضاء تختلف اختلافًا بينًا، لكنها تتكامل وتتناسق وتتضافر في خدمة الجسد الواحد، هذا الإحساس الكنسى يعنى المشاركة في بنيان جسد الكنيسة، والإسهام في بنيان جسد مصر.
فالإحساس بالعضوية في الوطن يعنى ضرورة توظيف ما عندى من إمكانيات، في خدمة الوطن الواحد.. ولهذا كتب الكثير من آباء الكنيسة منذ القرون الأولى وحتى الآن، يحضون أبناءهم على الإسهام في العمل الاجتماعى والوطنى، وإعطاء الصوت الانتخابى والاستزادة من علوم وثقافات العصر، فأبدًا ما كان للكنيسة أن تنعزل أو تتقوقع.
ومع أن الكنيسة الرسمية، كمؤسسة في المجتمع، ليس لها أن تتدخل في السياسة، ولا تعمل بها، ولا تطمح إلى نفوذ سياسى أو مجتمعى خاص، فشعارها المستمر هو نفس شعار السيد المسيح: «مَمْلَكَتِى لَيْسَتْ مِنْ هذَا الْعَالَمِ» (لوقا 36:18)، إلا أنها تدفع أولادها دفعًا إلى المشاركة الوطنية، والإسهام في العمل الوطنى،
ومن خلال الاشتراك في الأحزاب والنقابات والجمعيات، دون تدخل أو توجيه منها، تاركة لكل إنسان أن يختار ما يروق له من توجيهات حزبية أو سياسية أو اجتماعية أو فكرية.
5- الاعتزاز بالتاريخ الوطنى للأقباط:
فالأقباط عاشوا دائمًا، ولايزالون، بإحساس الانتماء للتراب المصرى، ولذلك كافحوا المستعمر أيًا كانت صورته، بدءًا من المستعمر اليونانى البيزنطى في القرن السادس، والذى فرض على الأقباط بطريركًا وحاكمًا في نفس الوقت، سام الأقباط صنوف العذاب، مما دفع البابا بنيامين (البطريرك 38)، إلى الهروب والتخفى، ليستطيع رعاية شعبه، إلى أن أعطاه عمرو بن العاص الأمان والسلام، فعاد إلى كرسيه مكرمًا.. ومرورًا على مراحل الكفاح المصرى المشترك، مسلمين وأقباطا، ضد المستعمرين: اليونانيين، والمماليك، والأتراك، والفرنسيين، والإنجليز والإسرائيليين.. وانتهاء بالجهاد الوطنى المعاصر في تحرير سيناء، والكفاح من أجل بناء مصر الحديثة الدستورية، مصر التعددية الحزبية والمؤسسات، مصر المستقبل.
إن لمصر وضعا خاصا في الكتاب المقدس، إذ خصها الرب ببركة، خاصة حينما قال: «مُبَارَكٌ شَعْبِى مِصْرُ» (أشعياء 25:19)، وحينما تحدث عن دخول المسيحية إليها في سفر أشعياء (800 ق.م): «يَكُونُ مَذْبَحٌ لِلرَّبِّ فِى وَسَطِ أَرْضِ مِصْرَ» (أشعياء 19:19). وقال لوط عن أرض الأردن: «كجنة الرب كأرض مصر» (تكوين 10:13).
كما زارها الكثير من الأنبياء مثل:
1- إبراهيم: وقد قطع الرب عهدًا مع إبراهيم قائلا له: «لنسلك أعطى هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات» (تكوين 18:15).
«فأنحدر إبراهيم إلى مصر ليتغرب هناك، لأن الجوع في الأرض كان شديدًا» (تكوين 10:12).
2- يوسف: ثم قال فرعون ليوسف: «انظر قد جعلتك على كل أرض مصر» (تكوين 41:41).
قال فرعون ليوسف: أنا فرعون فبدونك لا يرفع إنسان يده ولا رجله في كل أرض مصر (تكوين 44:41).
3- يعقوب والأسباط: فنزل عشرة من إخوة يوسف ليشتروا قمحًا من مصر» (تكوين 3:42).
«جميع النفوس ليعقوب التي أتت إلى مصر الخارجة من صلبه ماعدا نساء بنى يعقوب، جميع النفوس ست وستون نفسًا» (تكوين 27:46).
4- موسى: فقال الرب لموسى النبى: «إنى أكون معك.. إنى أرسلتك حينما تخرج الشعب من مصر تعبدون الله على هذا الجبل» (خروج 12:3).
وقال الرب لموسى النبى: «عندما تذهب لترجع إلى مصر انظر جميع العجائب التي جعلتها في يدك» (خروج 21:4).
- «.. هذه أسماء بنى إسرائيل الذين جاءوا إلى مصر مع يعقوب جاء كل إنسان وبيته» (خروج 1:1).
لكن أعظم بركاتها أن العائلة المقدسة: السيد المسيح، ومريم العذراء، ويوسف النجار، زاروها وجابوها طولا وعرضًا ومكثوا فيها حوالى عامين كاملين..
إن الأقباط في مصر لا يشعرون أبدًا بأنهم أقلية، مع أنهم أقلية عددية، ذلك لأنهم يؤمنون بأنهم من نسيج هذا الوطن، عرق واحد مع إخوتهم المسلمين، وجهاد مشترك، وأمل مرتجى، مستقبل مأمول.
وفقنا الله جميعًا لتحقيق آمالنا المستقبلية، لتكون مصر المزدهرة واحة أمان للجميع، ورائدة للعروبة، وأمثولة للعالم الثالث، وموضع تقدير من البشرية جمعاء.
نقلا عن المصري اليوم