القس باسليوس صبحي
العصر المسيحي (عصر الدولة البيزنطية)
منذ بداية المسيحية وحتى الفتح العربي حوالي سنة 640 م.

أولًا: الرهبنة:
نشأت الرهبنة في صعيد مصر على يد القديس أنطونيوس الكبير وسرعان ما فاح شذى عطرها وامتدت الأفكار الرهبانية داخل مصر وخارجها على أيدي قادة من الرهبان الأقباط، فكانت الرهبنة أولى نقاط التلاقي بين الكنيستين القبطية والسريانية، فقد خرج أحد الرهبان الأقباط الذي يدعى أوجين[4]، مع سبعين راهبًا قبطيًا قاصدين بلاد ما بين النهرين، فحلوا أولًا على ضعاف نهر الفرات، حيث سكنوا جنوبي مدينة نصيبين ثم صعدوا جبل الإزل[5]، ليتعبدوا ويتنسكوا فيه، وهناك سكن القديس أوجين مغارة وحوله تلاميذه، ثم تحول موضعه فيما بعد إلى دير يحمل اسمه[6]، وتتلمذ على يديه في هذه الفترة عدد غير قليل من الرهبان، وصل عددهم نحو 350 راهبًا. بعد ذلك سلك القديس أوجين مسلك الرسل المبشرين وكرز بالإنجيل هو وتلاميذه في القرى المحيطة بالجبل فأناروها بنور الإنجيل.

ومع ازدياد عدد المؤمنين في هذه المناطق وكثرة التلاميذ الذين قصدوه للترهب عنده تكونت على الجبل المذكور وبالمناطق المحيطة به مجموعة من التجمعات الرهبانية صارت فيما بعد أديرة تنسب لبعض القديسين الأقباط حتى يومنا هذا، مثل:

(1) دير مار ملكي القلزمي ومار أليشع أخيه (وهما ابنا أخت القديس أوجين ورحلا معه من مصر لنصيبين)[7].
(2) دير مار يعقوب الحبيس المصري بقرية صلح[8].
(3) دير مار لعازر ومار أسيا ومار فولا المصري تجاه حبسناس[9].
(4) دير القديس موسى الحبشي (الأسود) شرقي قرية حاح[10].
(5) دير مار فنحاس للراهبات[11].
(6) قبة المصريين بدير مار كبرييل[12].

كما تأسست كنائس في هذه المنطقة على أٍماء قديسين أقباط، تذكر منهم:
+ كنيسة مار برصوم (رئيس النساك السرياني) وأنبا بيشوي بقرية عريان[13].
وعلى أثر هؤلاء الرجال القديسين، اتصلت الرهبنة القبطية بالنساك السريان، وشاعت أخبار قديسي الرهبنة القبطية لديهم، خصوصًا بعد أن تُرجمت سيرهم إلى اللغة السريانية[14]، ومن ثم قصد البراري المصرية كثير من الرهبان والقديسين السريان لزيارة ولقاء قديسيها العظماء، وقد تحدثنا عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في أقسام أخرى. ومن أشهر هذه الزيارات: زيارة القديس مار أفرام السرياني للقديس الأنبا بيشوي: فقد تاق لزيارة مصر موطن الزهد والتقشف ومنبت النساك للقاء قديسيها وخاصة الأنبا بيشوي: ومما يحكى عن هذه الزيارة أنهما لم يكن أحدهما يعرف لغة الآخر، فصليًا معًا، فألهم الأنبا بيشوي السريانية وألهم مار أفرام القبطية، ومكث مار أفرام بضيافة الأنبا بيشوي أسبوعًا ثم غادره.

وبالرغم من أن بعض المؤرخين ينكرون تمامًا هذه الزيارة[15]، فمن الثابت وبالدليل القاطع أن عشرات الرهبان قصدوا مصر وصحاريها منذ عهد الرهبنة الأول وحتى القرن التاسع عشر على الأقل[16]. ويكفي تدليلًا وجود دير والدة الإله الشهير بدير السريان بوادي النطرون، وسوف يأتي عنه الكلام بالتفصيل في جزء لاحق من هذا المقال.

ثانيًا: العلاقات الكنسية بعد مجمع خلقدونية:
في سنة 451م التأم المجمع الخلقيدوني الشهير، وعلى إثره انشطرت كنيسة الله الواحدة الوحيدة إلى قسمين أحدهما غربي والآخر شرقي: القسم الأول يضم كنيستي القسطنطنية وروما وهما يقران بقرارات المجمع السابق الذكر. ولكون الملك في هذا القسم، عُرفت الكنيسة فيه باسم الكنيسة الملكانية "نسبة للملك"، وأما القسم الشرقي فرفض الاعتراف بقرارات هذا المجمع وبالتالي اضطهده الملك. وكان يضم كنيستي الإسكندرية وأنطاكية ثم تضامن معهما الأرمن والأحباش وكنيسة مار توما في الهند، ومن هذا التاريخ توثقت العلاقات أكثر فأكثر بين هذه الكنائس، ولاسيما لمجمع الإسكندرية وأنطاكية اللتين تعرضتا لنفس الآلام والضيقات من أباطرة القسطنطينية المؤيدين لمجمع خلقيدونية. فظهر في هذه الفترة قديس عظيم ومجاهد رسولي كبير هو القديس مار يعقوب البرادعي (500-578 م.) الذي اشترك في رسامته البابا ثيؤدسيوس الإسكندري (الـ33) في القسطنطينية سنة 543 م. مع البطريرك الأنطاكي، الذي من شدة تمسكه بالإيمان المستقيم وكثرة جهاده ونشاطه الواسع أطلق الخلقيدونيون اسمه على شعبي الكنيستين السريانية والقبطية وصاروا يعرفون لفترة طويلة باسم "اليعاقبة" نسبة لهذا القديس العظيم[17].

مصر تستضيف بطريركًا أنطاكيًا:
وعلى أثر الاضطهاد الخلقيدوني، جاء القديس ساويروس البطريرك الأنطاكي (512- 538 م.) إلى مصر فارًا من بطش الخلقيدونيين سنة 519 م. وبقى بها حوالي عشرين عامًا، كان خلالها يدير أمور كنيسته بواسطة وكلائه هناك. وعلى الرغم من أنه عاش متخفيًا في مصر إلا أن الكنيسة القبطية أحبته وأكرمته أجل إكرام، وعينت له ثلاثة أعياد في السنكسار القبطي cuna[arion، أحدها عيد مجيئه لأرض مصر (وهو اليوم الثاني من شهر بابه = 12/13 أكتوبر "تشرين الأول") حيث يذكر السنكسار قصة ذهابه إلى أحد أديرة برية شيهيت ودخوله الكنيسة بدير القديس مقاريوس[18] للصلاة أثناء القداس الإلهي دون أن يعرف الرهبان حقيقة شخصيته، وكيف أن الذبيحة الإلهية اختفت من على المذبح بمجرد دخوله الكنيسة فارتبك الكاهن وجمع الرهبان، ولكن ملاك الرب أرشدهم إلى شخصية القديس المتخفي في زِيَ راهب بسيط، فأدخلوه إلى الهيكل بالإكرام اللائق بالبطاركة، فرجعت الذبيحة مكانها وأكملوا الصلاة بفرح والتهليل [19].

ولما أكمل القديس جهاده بسلام تنيح بمدينة سخا بدلتا مصر ودفن بها أولًا، ثم نقل جسده الطاهر لدير الزجاج بقرب الإسكندرية، حيث كان يسكنه وقتها عدد كبير من الرهبان السريان. وبعد خراب هذا الدير، نقل الرهبان جسده إلى دير السريان حيث يحفظ حتى اليوم بالإكرام اللائق. هذا وقد أكرمت الكنيسة القبطية هذا القديس بعد نياحته بأن جعلت اسمه يذكر في مجمع القداس بعد اسم مارمرقس الرسول مباشرةً، وقبل أسماء العديد من قديسيها العظام مثل: مُعلمنا القديس ديسقورس، والبابا أثناسيوس الرسولي[20].

تقليد جميل بين الكنيستين:
وبرز في تلك الظروف تقليد جميل بين الكنيستين الشقيقتين، ألا وهو تبادل الرسائل بين بطاركتها جيلًا بعد جيل. حينما يرتقى أحدهما الكرسي الرسولي، يشرح لأخيه البطريرك الآخر ثباته على الإيمان المستقيم جيلًا بعد جيل. ولقد حفظت هذه الرسائل في كتاب واحد مخطوط (يرجع لسنة 1078م) يعرف باسم (اعتراف الآباء) يحوى الرسائل المتبادلة منذ عهد البابا كيرلس الأول البطريرك الإسكندري الـ24 حتى عهد البابا خريستوذولوس (الـ66) المتنيح سنة 1077م[21]. الذي لم ينتظم بعده تبادل الرسائل نظرًا للظروف التي كانت موجودة في وقت رسامة البطاركة أو أحوال البلاد غير المستقرة في كثير من الأحيان.

تبادل البطاركة على الكرسيين:
وحدث في هذا الوقت حادث فريد نادرًا ما يتكرر، إذ جلس على السدة البطرسية بأنطاكية البطريرك بولس الثاني الأسود "القبطي الأصل" (550- 575م) الذي كان سكرتيرًا للبابا ثيؤدوسيوس الـ33 القبطي، ورشحه لهذا المنصب القديس مار يعقوب البرادعي. وبعد رسامته بسنوات جلس على السدة المرقسية بالإسكندرية البابا دميانوس الأول السرياني الأصل (563-598 م.) غير أن العلاقات بين الكنيستين في هذه الفترة لم تكن جيدة أبدًا[22].

راهب قبطي رئيسًا لدير سرياني:
كما كان البطاركة يتبادلون بين الكنيستين، كذلك كان رئيس دير مار أوجين (بجبل الإزل بتركيا) في سنة 593 م.، راهبًا قبطيًا هو الراهب إبراهيم القبطي.

حلقة جديدة في العلاقات بين الكنيستين:
بعد أن تمتعت الكنيستان بفترة نموذجية للعلاقات بينهما في عهد البطريرك ساويروس الأنطاكي، تعكر صفو هذه الوحدة على عهد البابا دميانوس الإسكندري (الـ35) والأنطاكي الأصل، والبطريرك الأنطاكي بطرس الثالث القلنيقي (571-591 م.)[23]، خصوصًا بعد زيارة البابا دميانوس لبلاد الشرق[24]. وظلت هذه المشاكل حتى عهد البطريرك أثناسيوس الأول الجمال السرياني (595- 631 م.) الذي سعى لتجديد العلاقة بين الكنيستين بعد قطيعة دامت 28 سنة فزار مصر بصحبة خمسة أساقفة[25]، ومع البابا أنسطاسيوس الإسكندري (الـ36) (605- 616 م.) في مقره بدير الزجاج بغرب الإسكندرية (في أكتوبر سنة 615 م.)[26] وأقاموا شهرًا معًا يتناظرون في الكتب المقدسة[27].

ضبط ترجمة العهد الجديد:
- وفي هذا الزمان أشتهر توما الحرقلي مطران منبج[28]، الذي أضطهده دومطينا الملطي بإيعاز من موريقي، فذهب مع بقية الأساقفة الذين هربوا من الغضب إلى مصر وسكن الإسكندرية[29]، وأظهر همة مشكورة إذ ضبط الإنجيل وبقية أسفار العهد الجديد ضبطًا دقيقًا صحيحًا بعد أن تم تفسيرها في "منبج" على عهد المطران فيلوكسينوس وبهّمته[30]. ويُقال إن المطران توما الحرقلي كان ضمن وفد المطارنة السريان في المصالحة مع البابا أنسطاسيوس[31].
- وفي نفس الوقت أشتهر بأنطاكية أهرون القس الإسكندري، الذي كان له مجموعة مؤلفات في الطب، عبارة عن ثلاثين مقالة[32].
- كما زار مصر في هذه الفترة الحبر السرياني ساويروس أسقف سميساط (المتوفي سنة 643 م.) مع أخيه[33].