الأنبا مكاريوس 
فى عيد النيروز نتأمل: كيف استخفَّ الملايين بالتعذيب والسجن والموت، وكيف تسابق أفراد الشعب من جميع الأعمار والأجناس والثقافات والطبقات الاجتماعية إلى الاستشهاد، وكيف تحولت جماعات المقبوض عليهم للمحاكمة قبل القتل إلى مواكب انتصار، فكانوا يرتدون أفخر الثياب وترتفع أصواتهم بالتهليل والترانيم وهم فى طريقهم إلى الاستشهاد لأنهم ماضون إلى العُرس السمائى.
 
كيف كانوا يرون ما لم يره مضطهدوهم، كانوا يرون السماء مفتوحة والمجد الذى ينتظرهم، وكيف أمكن للرجال بل والنساء والأطفال أن يبهروا الحكام بشهادتهم عن المسيح بقوة ومنطق أدهشهم، ورضاهم عن طيب خاطر أن يموتوا على اسم المسيح، بل وكيف تحول الاستشهاد إلى شهوة عند الغالبية، فتسابق الجميع إليه، حتى حاولت الكنيسة تقنين الاستشهاد، لتطلب من أولادها ألَّا يبادروا بالذهاب إلى الحاكم وإنما يجاهرون بإيمانهم بشجاعة متى سألوهم، ولكن ومع ذلك فإن الأكثرين كانت رغبتهم هى نوال إكليل الشهادة.
 
وكيف أبهر المسيحيون الحكام بثباتهم، وكيف كلما أمعن الولاة فى تعذيب المسيحيين زادوا إصراراً على التمسُّك بالمسيح، حتى اعترف أحدهم وهو يوليانوس الجاحد: «لقد غلبتنى أيها الجليلى!»، وكيف أسهم استشهاد الكثيرين فى إيمان ما لا يُحصى عددهم من الكثرة. انظروا إلى مواكب تمجيد الشهداء اليوم، وانظروا إلى تزاحم الشعب وهتاف التسبيح وزغاريد النساء، والتقاطر على مقصورات رفاتهم. انظروا كيف كان الشهيد يصلى قبل قتله من أجل قاتليه.
 
انظروا كيف أن النار والسيف والسحل والعصر وتقطيع الأعضاء لم يرهب المشاهدين، بل دفعهم أن يتخذوا دورهم فى طابور الاستشهاد. انظروا كيف أن تعذيب الزوجة والأبناء وقتلهم لم يُثنِ الآباء والأمهات عن المُضى قُدماً فى تسجيل شهادتهم عن المسيح بالدم، وكيف احتملوا التعذيب النفسى والتشهير والإساءة لبناتهم بكل الطرق ولم يبيعوا قضية إيمانهم.
 
لقد كانت عبارة ختام تحقيقات الحاكم، هى: «كُتِبت قضيته وأُمِر بقطع رأسه»، فصارت العبارة نفسها هى ختم مسيحيته وحبه للمسيح ولوحة الشرف وعنوان ثبات الإيمان. نعم لقد تألموا كثيراً، لا سيما حين يصر الحاكم على التفنُّن فى طرق التعذيب وإطالة أمده. لقد كان التفسير اليائس للحاكم لثبات المسيحيين حتى الموت هو أن «يسوع المصلوب هو ساحر» استطاع أن يسلب ويسبى عقول الشهداء، بل لقد أُصيب الكثير من الحكام بالذعر والجنون حين وجدوا الأطفال يجيبون بحكمة ومنطق يفوق الوصف، حتى لقد كان بعض من الحكام يضعفون لدقائق ويتمنون العفو عن المسيحى ولكنهم مضطرون للحكم عليهم لأنها أوامر رؤسائهم، تماماً مثلما حدث مع بيلاطس البنطى الذى تمنى إطلاق سراح المسيح ولكنه خاف من ملكه.
 
بل كم من مرة ألحَّ الشهيد على الحاكم بأن يمضى قدماً فى قتله لأنه يود أن يلتقى المسيح، وكم من مرة عرض الحاكم على البعض العفو عنهم فرفضوا أمام ذهوله، وكم من حاكم بالتالى آمن بسبب مشاعر الشهداء وشجاعتهم ومنطقهم، وانضم هو نفسه إلى طابور الشهداء.
 
إننا نُعيِّد لهم لأن لهم الفضل فى تسليم الإيمان، والشجاعة فى الشهادة للمسيح، فقد انتشرت المسيحية أقوى ما انتشرت بالاستشهاد. ونُعيِّد لهم لأنهم انتصروا على الألم الجسدى والإغراء والتهديد، وأعطوا أغلى ما يمكن أن يعطيه إنسان وهو حياته الأرضية، حباً بالمسيح الذى سفك دمه عنه. ونُعيِّد لهم لأنهم صاروا شفعاء لنا، ونُعيِّد لهم لأننا نفخر بأن أجدادنا كانوا شجعان وكانوا سمائيين واحتقروا أباطيل العالم.
 
لقد أصبحت ساحة الشهداء الشهيرة فى روما «الكولوزيوم» اليوم أعظم مزار فى الكرة الأرضية بعد الأراضى المقدسة، هكذا تحول تذكار الاستشهاد إلى واحد من أبهج الأعياد المسيحية طقساً وروحاً وشعبية. ولعل أجمل ما نختتم به هذه الكلمات هو ما ورد عن الشهيد أبوفام الأوسيمى، الذى ودَّع والديه وأصدقاءه ولبس حلة بهيَّة وذهب ومَنْطَق نفسه بمنطقة من ذهب وركب حصاناً، وكان يقول: «هذا هو يوم عُرْسِى الحقيقى، هذا هو يوم فرحى وسرورى بلقاء ملكى وإلهى سيدى يسوع المسيح».