إسحق إبراهيم
تغيير الدين أحد الملفات الساخنة، التي توفر مساحة كبيرة للتنابز والتوتر الطائفي في الوقت الحالي، لا سيما فيما يعرف بظاهرة "اختطاف" أو "اختفاء" المسيحيات. ومع كل حالة، يتصاعد الصخب والجدل على السوشيال ميديا، حول تغيير ديانتها قسريًا.
وفي ظل غياب الحقيقية وصمت المؤسسات الرسمية، يصبح الموضوع أشبه بمباراة ملاكمة لا بد فيها من منتصر. وهي مباراة مستمرة، للأسف، منذ أكثر من عقدين.
يتبارى طرف للدفاع عن الأختين وفاء وكاميليا واللاحقات اللاتي أسلمن، سواء بقين على دينهن الجديد أو رجعن عنه. ويجزم طرف آخر أن هناك مجموعات تستهدف المسيحيات خصوصا القاصرات أو المتزوجات اللاتي يعانين مشاكل زوجية، مستخدمة، لتحقيق ذلك، وسائل غير مشروعة للتغرير والاستدراج والابتزاز انتهاءً بالخطف، وهو ما أشار إلى بعض جوانبه صانع المحتوى معاذ عليان في فيديوهاته التي خصصها لدعم التحول إلى الإسلام.
في هذه المعركة تتوه الحقيقية، وتضيع حقوق هؤلاء السيدات أو الفتيات، سواء بقين على الإسلام أو أرجعتهن الأجهزة الأمنية إلى ذويهن. تُسلب إرادتهن، ويُصبحن أشياء تتحكم بها وتحركها أطراف أخرى، بعضها يتبع مؤسسات الدولة، سواء الأمنية أو الدينية.
تنامي هذه الظاهرة، جعل البابا تواضروس الثاني، المعروف عنه عدم الحديث عن التوترات الطائفية، يدعو إلى وقفات جادة في قضايا الاختفاء والخطف، موضحًا أنها تحتاج إلى شفافية نظرًا لحساسيتها، ومطالبًا كافة الأجهزة المعنية بالعمل على حفظ سلام المجتمع.
في فهم عدم الإكراه
تنص المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، وفي مقدمتها العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية في مادته الثامنة عشر؛ على حرية الفكر والوجدان والدين، وتضمن حرية أن يدين الإنسان بدين أو معتقد ما، أو لا يدين، وحريته في إظهاره بالتعبد وممارسة الشعائر الدينية، والقدرة على تغيير هذه الدين أو المعتقد.
كما أرست هذه المادة مبدأين مهمين؛ الأول أنه ليس لأحد الحق في إكراه آخر على اعتناق أي عقيدة أو البقاء فيها أو تغييرها، وقد يعني الإكراه إقناع شخص رغما عنه باستخدام/أو التهديد باستخدام العنف الجسدي أو النفسي، واعتبر تقديم منافع مادية أو وضع قيود على الخدمات العامة على سبيل المثال من أشكال الإكراه غير المباشر.
تغيير الدين مسموح به في اتجاه واحد، إلى الإسلام فقط، وغير مسموح بالعكس
ولا يعني هذا أن التبشير أو الدعوة وتشجيع الناس على التحول من دين إلى آخر في المجمل عمل يجب تجريمه أو منعه، فهو متاح خصوصًا إذا لم يتضمن اللجوء إلى المال والهدايا والامتيازات.
أما المبدأ الثاني الذي أرسته المادة 18، هو التحرر من التمييز، أي أنه لا يجب أن تتميز ديانة الأغلبية بأي ميزة عن ديانات الأقلية، سواء كانت تشريعية أو تخص السياسات العامة أو الممارسات الاجتماعية.
على أرض الواقع، حرية العقيدة في مصر مُقيدة، ورغم أن الدستور ينص أن حرية الاعتقاد مطلقة، فالواقع يختلف تمامًا. تغيير الدين مسموح به في اتجاه واحد، إلى الإسلام فقط، وغير مسموح بالعكس.
وتعرضت الحالات التي أعلنت تغيير دينها، لمضايقات مجتمعية وأمنية، ومن لجأ منهم للقضاء رفضت دعواه؛ لدرجة أن حيثيات الحكم في دعوى رفعها محمد حجازي يُطالب بإثبات ديانته الجديدة المسيحية في بطاقة الرقم القومي، قبل عودته مجددًا إلى الإسلام بعد عدة سنوات، جاء بها أن الأديان مراتب أعلاها الإسلام، ومن ثم لا يجوز النزول منه إلى مرتبة أدنى، ناهيك عن القبض على البعض ومحاكمته بتهمة "ازدراء الأديان".
خطف أم اختفاء؟
إذا كان الحال كذلك، لماذا يلازم الصخب حالات النساء فقط، رغم وجود رجال يغيرون دينهم في هدوء، بل وبعضهم يعود إلى المسيحية مرة أخرى؟ تتحمل مؤسسات الدولة جزءًا كبيرًا من المسؤولية بطريقة تعاملها مع هذه الحالات. مفهوم أن تغيير الدين يُعد عند كثيرين نوعًا من "العار الاجتماعي"، لكن نطاق تأثير ذلك يختلف حسب النوع.
في حال كانت امرأة، فهي في نظر البعض غير كاملة الأهلية، غير قادرة على اختيار مصير حياتها بنفسها والرجوع عن قراراتها متى شاءت. يهبُّ المجتمع للدفاع عن "شرف" الأسرة أو العائلة مما اعتراه نتيجة هذا التحول. هذا ليس قرين تحول المسيحيات إلى الإسلام، بل حدث أيضًا في الحالات المعدودة لتحول مسلمات إلى المسيحية.
جلسات النصح والإرشاد أشبه بمحاكمة دينية للأشخاص
يزيد الأمر في حالة الأقلية، حيث تطال الأسرة أصابع الاتهام بالإهمال من محيطها العائلي ودوائر الأصدقاء والمعارف، وستحرص بعض هذه الدوائر على تجنب التعامل معها والاختلاط بها، وتلقائيًا سيؤثر ذلك على فرص زواج الفتيات في الأسرة، وهذا يبرر الإصرار على استخدام كلمة "خطف" مع كل حالة، لأنه أولًا يحول الأسرة من "متهم" إلى "مجني عليه"؛ يحتاج الدعم والمساندة في هذه المحنة الصعبة. وثانيًا يُعد نوعًا من الضغط على أجهزة الدولة للتحرك والكشف عن مصير المرأة.
يرسخ هذا الأمر ممارسات أجهزة الدولة، وطريقة تعاملها مع بلاغات الأسرة، من عدم تحرير محاضر بالخطف، والحرص على عدم تضمين بلاغات الاختفاء أسماء محرضين، مرورًا بتجاهل المطالب بالتعرف على الإرادة الحرة للمرأة؛ هل تغيير ديانتها نابع من اقتناع أم أنه نتيجة ضغوط اجتماعية، أو إكراه بدني أو نفسي، انتهاءً بتسليم بعض الفتيات إلى ذويهن بدون الإعلان عن تفاصيل ما حدث، وهل وافقن على ذلك أم لا؟
وفي أغلب الظروف، لا تختلف هذه الطريقة إذا كانت المرأة قاصرًا لم تبلع السن القانوني، أو متزوجة اختفت مع أطفالها، أو حتى أعلنت عقب عودتها أنها كانت مختطفة.
في هذا الصدد، يُطالب البعض بعودة جلسات النصح والإرشاد التي كانت تنظمها وزارة الداخلية، لمن ترغب في التحول إلى الإسلام، حيث يجتمع كاهن مسيحي وشخص من الأسرة مع المرأة في مقر أمني وبحضور أحد المسؤولين. وهي الجلسات التي توقفت بقرار إداري عقب واقعة وفاء قسطنطين، زوجة أحد الكهنة، التي تحولت إلى الإسلام، وعقب عدة مظاهرات للأقباط؛ نُظمت جلسة نصح وإرشاد، قررت وفاء إثرها العودة إلى المسيحية، لتخرج تيارات إسلامية متنوعة في مظاهرات ووقفات احتجاجية عدة تطالب بتسليم السيدة وفاء لهم باعتبارها أختًا مسلمة سُلِّمت قسرًا للكنيسة.
لا أعتقد أن عودة جلسات النصح والإرشاد سوف يحل المعضلة، من حيث المبدأ أرفضها، لأنها أشبه بمحاكمة دينية للأشخاص، كما أنها من الناحية العملية فقدت معناها وهدفها خلال الأعوام الأخيرة قبل الإلغاء، وتحولت إلى إجراء شكلي، حيث كانت تأتي المرأة منتقبة وتمضي بدون أن تنطق بكلمة واحدة.
حماية إرادتهن
ويُصبح السؤال؛ كيف تتأكد الأسرة أن ابنتها بخير ولم يصبها مكروه، وأن اختفاءها ناتج عن قناعاتها وبإرادة حرة؟ هذا من حق الأسرة ولا يمكن إنكار ذلك عليها، وهنا كان يجب على مؤسسات مثل المجلس القومي لحقوق الإنسان، والمجلس القومي للمرأة، أن يلعبا دورًا، لا باعتبارهما محاكم تفتيش؛ لكن جهة يطمئن من خلالهما أن المرأة بأمان ولم تتعرض لمكروه أو إكراه.
أصل القضية، والسبيل الآمن لحلها، يكمن في ضمان مؤسسات الدولة لحرية الاعتقاد
وهناك بعض الحالات، ستتطلب بعض الإجراءات الأخرى، مثل تحول أم وتغيير ديانة الأطفال بدون إرادة الزوج، فإذا كانت حضانة الأم حقًا مقررًا لها بغض النظر عن ديانتها، فإن تغيير ديانة الأطفال قرار مصيري لا يجب أن يتخذه أحد الأبوين من تلقاء نفسه، محتميًا بأنه أصبح ينتمي إلى الأغلبية الدينية.
بالنسبة للقاصرات، أولًا يجب التأكد من سلامتهن، وثانيًا، التعامل مع احتمال تعرضهن للزواج المبكر بحزم كونه جريمة يجب معاقبة المسؤول عنها، باعتبارهن طفلات دون السن القانونية للزواج، الأمر الذي يهدد صحتهن وحياتهن ويشكل اعتداءً جنسيًا عليهن.
بالتأكيد من حق الوالدين رؤية ابنتهما والاطمئنان على سلامتها الجسدية والنفسية، إلا أنه في ذات الوقت، لا يجب إعادتهن إلى أسرهن دون استشارتهن، والتأكد من استمرار رعايتهن بدون التأثير على تكوين آرائهن. كان يمكن للمجلس القومي للأمومة والطفولة أن يلعب دورًا في هذا الصدد، لكن ذلك لم يحدث للأسف، رغم أن ذلك من صميم مهامه.
أعود للتأكيد أن أصل القضية، والسبيل الآمن لحلها، يكمن في ضرورة ضمان مؤسسات الدولة لحرية الاعتقاد بما يتضمنه من حرية التغيير والعودة أيًا كان الدين أو المعتقد وفي أي إتجاه.
نقلا عن المنصة