كتب - محرر الاقباط متحدون 
وجه نيافة الحبر الجليل الأنبا مكاريوس أسقف المنيا وتوابعها ورئيس دير الأم سارة للراهبات، بمناسبة رأس السنة القبطية رسالة بعنوان "سر قوة الكنيسة - كنيسة الشهداء" ، وجاء بنصها : 
 
لعل من أهم أسرار قوة الكنيسة القبطية الأرثوذكسية أنها كنيسة شهداء، فإن عدد شهدائها يفوق بمراحل مجموع شهداء العالم كله. لقد كان الاستشهاد -وما يزال- هو أقوى سُبُل الكرازة.
 
 الشهداء الذين شهدوا للمسيح بمنطقهم، ثم بدمائهم، حتى أذهلوا الذين يحاكمونهم، وكم من حاكم آمن بسبب شجاعتهم، فإنه لا يمكن أن يستهين أحد بحياته ما لم يكن إيمانه سليمًا ومسيحه حيًّا وعينه صوب الأبدية.
 
أما الذين تعذّبوا ولم يُفضِ بهم العذاب إلى الموت، فهم شهداء بغير سفك دم، إنهم المعترفون، والمعترفون في ضمير الكنيسة هم الشهداء الأحياء. فلا تظن أن تقطيع الأعضاء وسفك الدم هو الاستشهاد فقط، وإنما احتمال الآلام والإهانة والظلم يُعَدُّ استشهادًا من أجل المسيح أيضًا؛ هكذا يقول الأنبا موسى الأسود: "مَنْ احتمل ظلمًا من أجل الرب صار شهيدًا".
 
كذلك أن تظهر حياة المسيح فينا بصور متعددة، وأن نصير نماذج مسيحية؛ هذه أيضًا شهادة، فإنه يمكننا أن نشهد للمسيح بالكلام المُملَّح بالروح القدس «لغتك تظهرك»، وبالأعمال الحسنة يراها الناس فيمجّدون الله، وقد يرتفع مستوى الشهادة ليصل إلى الدم، وعند المحكّ الحقيقي ينال الإنسان نعمة خاصة فيجاهر ويستبسل ويستخفّ بالموت. وفي هذا نحن لا نكره الحياة ولكننا في الوقت ذاته لا نرهب الموت، فالحياة والموت يتساويان إن كانا في المسيح.
 
عندما يتخيل الشخص العادي -وهو يعرف أنه خاطئ وضعيف مثل كل الناس- أنه سيواجه التعذيب والآلام والتهديد بالقتل والتمثيل بجسده، فإنه قد يخاف لأول وهلة.. ولكن الاستشهاد هو عمل إلهي، يتحول معه المُقبِل على الاستشهاد إلى إنسان آخر غير الذي يعرفه، إنسان أقوى وأكثر حكمة، وصاحب منطق لا يقدر مضطهدوه على مواجهته. ومن هؤلاء الأبطال أطفال كانوا في سنواتهم الأولى.
 
كان المسيحيون أمام موجات الاضطهاد مثل الحملان في مواجهة الوحوش، ولكنهم بسبب وداعتهم ومحبتهم وصلاتهم لأجل مضطهديهم، قد تمثّلوا بإلههم الذي قيل فيه «كحمل يُساق إلى الذبح، وكنعجة صامتة أمام الذي يجزّها»، فبهروا مضطهديهم، وتحول الطبع الوحشي إلى الوداعة، هكذا قال القديس كيرلس: "إن الذئاب من كثرة ما شربت من دم الحملان تحولت إلى حملان".
 
لأنه بماذا واجهت المسيحية الإمبراطورية الرومانية وهي أعتى امبراطورية في التاريخ؟ ليس بالسلاح ولا بالمنطق البشري وإنما بشريعة الكمال، بتقديم الخد الثاني والميل الثاني والثياب مع الرداء، وحب الأعداء والصلاة لأجلهم والإحسان إلى المسيئين، فغلب الحب حدّ السيف. وحين وضعوهم في السجون المظلمة أضاءت السجون، وحين وضعوا أيديهم في السلاسل وأرجلهم في المقاطر تقدست المقاطر والأغلال، بل لقد تحولت ساحات الاستشهاد إلى أعظم المزارات في العالم، ويكاد الكولوزيوم (ساحة الاستشهاد الشهيرة في روما) أن ينطق في وجه كل زائر: "هنا سُطِّرت أعظم ملاحم الحب. هنا تمّ العُرس الإلهي. هنا قَدَّمت العروس حياتها لعريسها الذي قدَّم ذاته مهرًا لها على الصليب". إن الكولوزيوم والجلجثة يمثّلان هذه المقابلة الأعظم في تاريخ الإنسان مع الله.
 
تأملوا كيف كان الشهداء الأبرار يتسابقون إلى ميادين الاستشهاد، رجالًا ونساء وأطفالًا وشيوخًا وعجائز. لقد تأثر كل مسيحي باكيًا عند متابعته أحداث القبض على المسيح والاستهزاء به، وآلامه وجلده وتكليله بالشوك وصلبه، وصبره على كل ذلك وموته، وتأسفوا في كل مرة لذلك، وهم يدركون أنه إنما من أجلهم كابد كل تلك المشقات، ولكن وما أن وجدوا إمكانية أن يتألموا لأجله، ويموتوا معه، فإنهم لم يتأخروا عن ذلك ولم يترددوا، وكأنهم وجدوا الفرصة الحقيقية التي يثبتون فيها محبتهم له. وعندما كانوا يُقدَّمون للتعذيب ويقتربون من الموت كانوا يجعلون صورة المسيح المصلوب نُصب أعينهم، فيستخّفون حينئذ بالآلام ويهزأون بالموت وهم يهتفون: "ما دماؤنا هذه مقابل دمك الزكي؟ وما آلامنا مقارنة بآلامك غير الموصوفة؟ وما حياتنا هذه مقابل حياتك التي قدمتها بحب عنا؟! اغفر لنا... يا ليت لدينا أكثر من هذا لنقدمه لك، فأنت البار ونحن الأثمة، أنت الذي بلا خطية وحده ونحن الخطاة، بل إننا بموتنا عنك نجعل لحياتنا قيمة، إذ نقدمها لك ذبيحة متواضعة نتوسل إليك أن تقبلها منّا.."
 
نفخر بأننا أبناء الشهداء، ونفخر أن الإيمان المُسلَّم إلينا حفظه لنا أجدادنا بدمائهم، ونقدم الشكر لإلهنا لأنه أعطانا أن يُدعَى اسمه القدوس علينا. كل سنة والجميع بخير.