القس باسليوس صبحي
أولًا: في عهد الخلفاء الراشدين والدولة الأموية (640-750م):
راهبًا قبطيًا يتبؤ السدة الأنطاكية:

ذاك هو ثاؤدور الراهب القبطي الأصل الصعيدي المنشأ، الذي أعتلى الكرسي الرسولي بمدينة أنطاكية سنة 649م. حيث بدأ حياته الرهبانية بأسقيط مصر ثم قصد دير قنسرين[34] وتنسك به. ولما خلا الكرسي البطريركي الأنطاكي رشح لهذه الخدمة المقدسة، فخدم الكرسي حوالي ثماني عشرة سنة ثم رقد بسلام ودفن بدير قنسرين أيضًا[35].

راهب سرياني يُرسم بطريركًا للإسكندرية:
بعد أن خدم راهب قبطي الكرسي الأنطاكي بسنوات قليلة رسم راهب من أصل سرياني لخدمة الكنيسة القبطية، هو البطريرك سيمون الأول (الـ42) 692-700 م.، الذي كان سريانيًا من أهل المشرق، وجاء به أبوه إلى الإسكندرية وهو صبي، ونذره للكنيسة إكرامًا ومحبة للقديس ساويرس الأنطاكي الذي كان جسده بدير الزجاج غرب الإسكندرية حيث تَرَهَّب الشاب سيمون وتتلمذ لرئيس الدير، ثم رشح لمنصب البطريرك في الكنيسة القبطية وخدمها حوالي ثماني سنوات[36].

أرخن سرياني يرعى شئون الكنيسة بمصر:
بعد نياحة البابا سيمون (السابق الذكر) سنة 700 م. خلا الكرسي الإسكندري أربع سنوات في ظروف صعبة. وفي بداية هذه الفترة تقدم الأرخن أثناسيوس الرهاوي (السرياني) متولي الديوان، وكان رجلًا مؤمنًا وقام بمراعاة شئون البيع. ولما طال الأمر تقدم هذا الأرخن الفاضل ومعه كتّاب الأقباط إلى والي مصر عبد العزيز بن مروان وسألوه تعيين أنبا غريغوريوس أسقف القيس قائمًا بأعمال البطريرك مدة خلو الكرسي البطريركي، فأجابهم إلى طلبهم لمدة ثلاث سنوات[37].

دير السريان:
ذكرنا فيما سبق أن الرهبان السريان قصدوا البراري المصرية للتعبد والنسك بها منذ عصور الرهبنة الأولى، وتمركزوا أولًا بدير الزجاج بغرب الإسكندرية حيث تخرج فيه مشاهير منهم. وفيه ضبطت الترجمة الحرقلية، وفيه دفن القديس ساويرس الأنطاكي بعد دفنه بسخا Cenwout فترة. ثم تفرقوا في سائر الرباري والأديرة المصرية، إلى أن جاءت فكرة تجمعهم في دير واحد يحمل اسمهم، ونفذت هذه الفكرة في الغالب بعد دمار أديرة برية الإسقيط سنة 817 م. على أيدي البربر في عهد البابا مرقس الثاني (الـ49). بيد أن المؤرخين مختلفون في تحديد سنة إنشاء ذلك الدير، فيرى البعض أن البداية كانت على أيدي ثلاثة رهبان من تكريت هم متى وأبرام ويعقوب (الأول والثاني منهم أخوان شيقيقان)، كانوا في دير مار ميخائيل[38]. بصعيد مصر، وانتقلوا إلى الإسقيط في الفترة ما بين 819- 836م، ومعهم عشرة كتب في المكان الذي صار فيما بعد دير السريان[39].

أما البعض الآخر فيعتقد بتقليد من الممكن أن يكون متأخرًا نوعًا ما، يقول بشراء الدير من القبط باثني عشر ألف دينار ذهب حتى يتسنى للرهبان السريان المشتتين في الأديرة الأخرى التجمع فيه، وليتمكنوا من استقبال الراغبين في الانضمام إليهم. وينسبون هذه العملية لشخص يدعى "ماروثا بن حبيب التكريتي" التاجر السرياني التكريتي الذي كان يعيش بالفسطاط[40].

كما يرى البعض أن زيارة البطريرك الأنطاكي ديونيسيوس التلمحري لمصر (سوف يأتي عنها الكلام فيما بعد) قد لعبت دورًا في تجميع الرهبان السريان في دير واحد[41]، وبالتالي كان تأسيس هذا الدير، وهذا رأي الكثير من مؤرخي الكنيسة القبطية المعاصرين مثل أ. نبيه كامل داود عضو اللجنة البابوية لشئون الكنائس القبطية القديمة وأستاذ مادة تاريخ الكنيسة بالكلية الإكليريكية بالقاهرة سابقًا.

غير أني لا أحب أن أكرر ما ذكرته بدقة (الباحثة العلامة إفيلين هوايت) عن قصة دير السريان ورؤسائه[42].

ثانيًا: في عهد الدولة العباسية (750- 969 م):
بطريرك أنطاكي يزور مصر مرتين:

في عهد الخليفة المأمون كان والي مصر يدعى عبد الله بن طاهر، وكان حسن السيرة صالحًا في حكمه، وكان له أخ يدعى محمد واليًا على الرها وهذا ارتكب من الفواحش في حق السريان الشيء الكثير مما دعا البطريرك الأنطاكي مار ديونيسيوس التلمحري (817- 845م) أن يأتي سنة 827م لمصر لمقابلة الوالي عبد الله بن طاهر، وكان ذلك في عهد البابا يعقوب الأول البطريرك الإسكندري الـ50 (820- 830م) فوصل إلي ميناء تنيس أولًا حيث أستقبله البابا يعقوب على رأس ثلاث ربوات من الشعب مرحبين به معبرين عن فرحتهم بزيارة اول بطريرك أنطاكي لمصر، بعد القديس ساويرس والبطريرك أثناسيوس الجمال[43]. قدس بكل مدينة حل بها، حتى التقى بالوالي عبد الله الذي عاتبه على تحمله مشاق السفر وحضوره بنفسه إلى مصر قائلًا له: (رسالة منك كانت تفي بالغرض) واعدًا إياه بحل مشاكل الرها.

ومما هو جدير بالذكر أن البطريرك الأنطاكي تشفع عند الوالي عن شعب تانيس القبطي الذي كان يعاني من الفقر بسبب الضرائب الباهظة، فقبل الوالي شفاعته وخفض الضرائب عنهم، فعاد البطريرك إلي كرسيه مجبور الخاطر.

أما المرة الثانية التي زار فيها هذا البطريرك مصر فكانت سنة 832م في عهد البابا يوساب الأول (البطريرك 52) (831- 849م) في صحبة الخليفة المأمون نفسه، إبان احتدام الثورة التي قام بها أهالي شمال الدلتا سنة 832م بسبب كثرة الضرائب والخراج المفروضة عليهم. وهى الثورة التي أضطرت الخليفة العباسي للحضور إلى مصر على رأس جيشه للقضاء عليها ولكنه لم يفلح، فلجأ إلى البطريرك الأنطاكي ليساعده على ذلك، وقد تحدثنا عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في أقسام أخرى. فتقابل البطريرك الأنطاكي مع البابا يوساب الأول الذي كان قد وجّه رسائل إلى شعبه بتلك البلاد تحثهم على طاعة الخليفة وعدم عصيانه، لكنهم زادوا في عنادهم مما جعل الخليفة ينهى المسألة بالقوة، وأسر من البشامرة [44]والبشرودين[45] العدد الوفير، فبيع بعضهم عبيدًا بأسواق دمشق وبغداد، كما أخذ الخليفة عددًا منهم عبيدًا في قصره، وظلوا في هذا العمل حتى عهد خليفته الخليفة المعتصم.

وفي عهد هذا الخليفة أرسلت القوات العربية لمحاربة الزطيين المقيمين وسط المياه عند مصب دجلة والفرات، وكانوا شعبًا متمردًا ومصدر إزعاج للخلفاء، ولم يستطع الجيش قهرهم لكونهم يقاتلون في الزوارق، فأرسل الخليفة إليهم الأقباط الذين كان قد سباهم والمعتادين على الحياة في المياه، فكانوا يغطسون في الماء كالسمك دون أن يراهم أحد ويمطرون الزطيين بالنبال ويهربون، وهكذا هزم البياميون الزطيين، وقبض عليهم وعلى نسائهم وأطفالهم وزجوا في سجن بغداد ثم أعدموا. وبعد الانتصار الذي حققه الأقباط ضد الزطيين، أحبهم الخليفة واختار منهم جماعة يعلمون في خدمته وحدائقه وبساتينه، وآخرين لينسجوا أقمشة قطنية، نظرًا غلى اشتهارهم بهذه الحرفة، وأذن للبقية بالعودة إلى وطنهم. ولكنهم لسوء الحظ غرقوا في البحر بعد ما عصفت الزوابع بسفنهم[46].

ثالثًا: في عهد الدولة الفاطمية (969-1171 م):
1- انتخاب شخصان من السريان بطاركة للأقباط:

على المستوى الرسمي في هذا العهد انتخاب شخصان من الكنيسة السريانية ليتبوءا الكرسي الرسولي الإسكندري كبطاركة للأقباط. أولهما كان البابا ابرآم بن زرعة، التاجر السرياني المقيم بمصر، الذي صار البابا ابرام بن زرعة البطريرك الـ62 (968م- 971م)، والذي في عهده تمت معجزة نقل جبل المقطم، وأُضيف صوم نينوى إلى أصوام الكنيسة القبطية[47]. أما الثاني فكان الشماس أبو الفرج بن أبي السعد بن زرعة الذي كان مستوفي الديوان الخاص، الذي صار البابا مرقس الثالث بن زرعة البطريرك الـ73 (1157- 1180م)[48].

2- سكنى الرهبان السريان بالأسقيط:
أما على الصعيد الرهباني فقد سجل لنا المؤرخ القبطي موهوب ابن منصور ابن مفرج الاسكندراني الشماس في الإحصاء الذي عمله لرهبان برية الأسقيط في شهر برمهات سنة 804 ش 😊 سنة 1088م) عدد الرهبان السريان سُكّان دير السيدة العذراء الخاص بالسريان، وقال أنهم ستون راهبًا. كما سجل لنا خبر أخر هام وفريد، بل قد يكون نادرًا من نوعه وغير مكرر، ألا وهو: سكن راهبان فقط في مغارة القديس الأنبا موسى الأسود، أحدهما كان سريانيًا والأخر قبطيًا[49].

3- جدل بين الكنيستين حول مادة القربان المقدس:
في عهد البابا خريستوذولوس البطريرك الإسكندري الـ66 (1047-1077م)، والبطريرك الأنطاكي يوحنا بن شوشان (1063-1073م) حدث جدل بين الكنيستين حول مادة القربان المقدس المستخدم في سر الإفخارستيا. حدث هذا الجدل حينما منعت الكنيسة القبطية أبناء ربيبتها السريانية المقيمين بمصر، من إدخال الملح والزيت إلى القربان المقدس. حيث أن التقليد القبطي يقضي بأن القربان المقدس لابد أن يكون خالًا من الملح والزيت، بينما يقضي التقليد السرياني أنه لابد أن يحويهما دلالة على بعض الرموز من العهد القديم، واستنادًا على العديد من أقوال بعض معلمي البيعة (خصوصًا البطريرك ساويروس الأنطاكي). فأرسل البطريرك السرياني رسالة لنظيره القبطي شرح فيها فلسفة آباء الكنيسة السريانية من إضافة هذه المواد للقربان المقدس[50]. فتقبلها البابا القبطي بهدوء، وانتهى الجدل هو هذه المسألة.

رابعًا في عهد الدولة الأيوبية (1171- 1250 م):
وحد الأيوبيون بين بلاد الشام ومصر حينما أخضعوا كلا البلدين تحت حكمهم الواحد، مما سهل حركة تنقل السريان لمصر. كما قصد المصريون بلاد الشام للتجارة وأستقر بعضهم بها، ومن ثم تكون مجتمع قبطي صغير في بلاد الشام. وكان مطران دمياط القبطي مسئولًا عنه في بداية الأمر، وكان يزورهم كلما أتيحت له الفرصة، وسجل لنا التاريخ خبر زيارة الأنبا ميخائيل مطران دمياط (مابين عامي 1157- 1208م) للقدس وبلاد الشام حيث زار دير السيدة العذراء بصيدنايا في 22 برمودة سنة 900 ش (17 أبريل 1184م)[51]، بل يذهب البعض إلى القول باحتمال وجود مذبح قبطي بكنيسة السيدة العذراء الكبرى بدير صيدنايا أسوة بسائر الطوائف الأخرى التي تملك مذابح في هذه الكنيسة[52].

كما سجل لنا التاريخ خبر زيارة الأسقف يوحنا أسقف دمشق لمصر في مهمة من جانب يوحنا البطريرك الأنطاكي إلى البابا يوحنا الثامن بطريرك الإسكندرية 1211م تقريبًا[53].

تزايد هجرة الأقباط للشام:
في عهد البابا كيرلس الثالث بن لقلق البطريرك الـ75 (1235- 1242م)، حدث غلاء شديد في كل بلاد مصر، مما جعل الكثيرين من الأقباط يهجرون بلادهم قاصدين مصدرًا للرزق في بلاد أخرى، فقصد عدد كبير منهم بلاد الشام، ولما تزايد عددهم صارت لهم كنيسة بدمشق، وأرسل لهم البابا كيرلس رسالة يتفقدهم بها[54]، يفهم منها أن الشعب القبطي بدمشق كثير العدد ولهم كهنة وشمامسة ومن الشعب أراخنة كثيرون. ومن أشهرهم الشيخ المؤتمن بن العسال، والأنبا خريستوذلوس (عبد المسيح) بن الدهيري، جاء من الشام وسكن بدير الشهيد فليوتاؤس ببركة الحبش حيث تعرف بالبابا كيرلس قبل رسامته، وقيل إنه الشخص الوحيد الذي لم يأخذ منه البابا كيرلس مالًا عند رسامته[55]، والأنبا بطرس المعروف بابن الراهبة أسقف طمبدي (عم البابا غبريال الثالث 77)[56].

أزمة في العلاقات القبطية السريانية:
لما وجد البابا كيرلس الثالث أن الشعب ببلاد الشام يتكاثر وأن بعضهم يتقدم لرتب الكهنوت دون استحقاق ودون فحص [57] فكر في رسامة مطران قبطي للقدس على أن تشمل إيبارشية بلاد الشام والساحل حتى نواحي الفرات، ونفذ هذه الفكرة فعلًا في السنة الثانية من بطريركيته وهى سنة 1236م. وكانت هذه هي المرة الأولى في التاريخ التي يُرسم فيها مطران قبطي للقدس، وقد دعاه باسم الأنبا باسيليوس[58]. غير أن هذا الأمر أغضب البطريرك الأنطاكي المعاصر مار أغناطيوس الثالث داود (1222- 1252م) لأن أملاك الأقباط بالقدس كانت تدار من قبل بواسطة السريان، ووجه رسالة للبابا كيرلس الثالث معترضًا على رسامة هذا المطران[59]، كما رد على هذا الموقف برسامة راهب دعى (توما) مطرانًا على الحبشة الخاضعة للكرسي الإسكندري.

غير أن البابا كيرلس الثالث أنتهز فرصة قدوم البطريرك الأنطاكي للدق، فأرسل له أسقف الخندق واحد قساوسة مصر بهدية من هدايا مصر وحملًا غليه رسالة من البطريرك الأنطاكي الأمر بهدوء واقتنع بضرورة وجود مطران قبطي في القدس والشام لرعاية وإدارة مصالحهم بهما، وتم الصلح بينهما، فأمر البابا كيرلس كنائسه بكل مصر، بأن تذكر اسم البطريرك الأنطاكي في جميع الصلوات والقداسات بجميع البيع والأديرة، بكافة المدن والقرى[60].

دير قبطي ببلاد الشام:
سبقت الإشارة إلى وجود كنيسة قبطية بدمشق، كذلك وصلنا خبر وجود دير قبطي ببلاد الشام، مما يفهم منه هجرة عدد من الرهبان لبلاد الشام حيث كانوا يسكنون هذا الدير، وكان الدير باسم القديس نار إلياس[61]بالقرب من قرية (القريتين) بالقرب من حمص- سوريا، وكان يقوم بخدمة هذا الدير راهب نشيط يدعى القس جرجس الراهب، ولكن عدو الخير دخل في قلب شقيقه فاغتصب إدارة الدير وأساء التصرف فيه. فلما بلغ الأمر البابا كيرلس الثالث حزن وأرسل رسالة للبطريرك أغناطيوس الثالث داود الأنطاكي[62] بشأن حالة الدير المذكور، طالبًا تدخله إذ قد تعذر على المطران القبطي بالقدس الأنبا باسيليوس أن يعمل شيئًا تجاه هذا الاغتصاب.

كما توصلنا إلى معرفة اسم راهب قبطي آخر عاش بهذا الزمان، ويبدو أنه كان أحد رهبان هذا الدير، وهو القمص سعد الله الحمصي، الذي كتب بخطه أحد المخطوطات المحفوظة بدار البطريركية السريانية إلى اليوم[63].

خامسًا: في عهد دولة المماليك البحرية (1250-1382 م):
بطاركة أقباط من الجالية القبطية بدمشق:

ذكرنا فيما سبق تكوين مجتمع قبطي ببلاد الشام في عهد الدولة الأيوبية، ومع تكاثر الطائفة القبطية ببلاد الشام قدمت للكنيسة القبطية مجموعة من أحبارها نذكرهم حسب ما توفرت لنا أخبارهم:
1- البابا غبريال الثالث البطريرك الـ77 (1268- 1271م).
2- البابا يؤانس العاشر البطريرك الـ85 (1363- 1369م) وكان معروفًا باسم يؤانس المؤتمن الشامي.

زيارة راهب سرياني للتعلم بمصر:
لم تنقطع الصلات بين الرهبان السريان والأقباط حتى في أوقات أزمات العلاقات الرسمية بين الكنيستين الشقيقتين. وقد سجلت لنا كتب التاريخ زيارة قام بها راهب سرياني من رهبان أديرة القطرة يدعى الراهب دانيال المارديني المعروف بابن عيسى (1327- 1382م)، وقد جاء إلى مصر طلبًا للعلم سنة 1356م، وأقام بها زهاء سبع عشرة سنة. وبعد أن نهل منه ما شاء، عاد إلى بلاده ووضع جملة مصنفات جميلة مفيدة منها كتاب أصول الدين وشفاء قلوب المؤمنين[64].

سادسًا: في عهد دولة المماليك البرجية (1382- 1517 م):
رسامة بطريرك أنطاكي بمصر:

في عهد البابا غبريال الخامس البطريرك الـ88 (1409- 1427م) حدث أمر فريد في التاريخ، ولم يتكرر حتى الآن. كانت الظروف السياسية المحيطة بالكرسي الأنطاكي تحول دون اجتماع المطارنة لرسامة بطريرك جديد بعد خلو الكرسي الأنطاكي سنة 1421م. فرشح مجمع دير الزعفران المفريان مارباسيليوس بهنام مفريان المشرق[65] للمنصب البطريركي، فقصد مصر قادمًا من أورشليم بصحبة المطران مار كيرلس المعروف بابن نيشان مطران القدس السرياني، طالبًا الرسامة من الكرسي الإسكندري فقام البابا غبريال بعقد مجمع تقرر فيه تكليف الآباء الأساقفة: أنبا ميخائيل أسقف سمنود المعروف بالغمري، أنبا غبريال أسقف أسيوط الشهير بابن كاتب القوصية الذي كان رئيسًا لدير أبي مقار، أنبا كيرلس بن نيسان مطران أورشليم السرياني، بالإضافة إلى القس الأسعد أبي الفرج كاهن بيعة مرقوريوس أبي سيفين بمصر القديمة (الذي صار فيما بعد البابا يؤانس الحادي عشر) بالقيام بهذه الرسامة، وتمت الرسامة بكنيسة الشهيد مرقوريوس أبي سيفين بدرب البحر بمصر المحروسة في سنة 1138 ش (الموافقة 1421م). وبعد الرسامة سافر البطريرك الأنطاكي إلى أورشليم بعد أن زوده البابا غبريال بكل ما يحتاج إليه، وقد ودعه كثير من الكهنة والأراخنة حتى وصلوا به إلى المطرية[66].

البطريرك الأنطاكي يعود لمصر زائرًا:
زار هذا البطريرك الأنطاكي مصر مرة أخرى سنة 1416ش (1430م) للقيام بتهنئة البابا يؤانس الحادي عشر (الـ89) على اعتلائه السُدة المرقسية، لسابق المعرفة به عند رسامته بمصر، فالبابا يؤانس هو القس الأسعد أبو الفرج الذي شارك في رسامة هذا البطريرك الأنطاكي بمصر كما سبق وأشرنا. فاحتفى به البابا يؤانس جدًا، وتشاركا في الخدمة الكهنوتية، وفرحت به البيعة وكل الشعب الأرثوذكسي[67]. كما عرج هذا البطريرك على صحراء وادي النطرون وزار أديرته، وقد سجلت هذه الزيارة على جدران كنيسة السيدة العذراء بحصن دير القديس الأنبا بيشوي بوادي النطرون[68]. كما زار قداسته بيت كاهن سرياني مبارك يُدعى القس يوحنا ابن العشير الذي كان يقطن بحارة النصارى بسويقة صفية بالقاهرة المحروسة[69]. لعله كان هذا الأب أحد كهنة السريان المكلفين بخدمة الرعية السريانية بمصر يومئذ.

تكريس الميرون مرة بمصر لصالح السريان سنة 1430م:
وقبل أن يغادر البطريرك المذكور مصر عائدًا لبلاده، صرح للبابا يؤانس الحادي عشر عن نفاذ الميرون المقدس من كرسيه، وعدم وجود حتى الخميرة التي يقدسه بها، وأن هذا كان أحد الأسباب القوية لهذه الزيارة لمصر[70]. فأعد البابا يؤانس مستلزمات الميرون، واشتركا الأبوين الطوباويين في عملية الطبخ المقدسة، وأشترك معهما المطران كيرلس السابق الذكر، وأشترك معهم كهنة الأقباط والسريان. ولما أكملوا عملية الطبخ كالمعتاد (حسب الطقس القبطي)، حملوه ليلة الشعانين إلى كنيسة السيدة العذراء المعروفة بالمعلقة وأودعوه داخل المذبح، وحضر البطريرك والمطران والكنهة السريان إلى القلاية البطريركية بحارة الروم وأقاموا بها ضيوفًا كرامًا، حتى يوم خميس العهد حيث أحضروا الميرون المقدس وأكملوا عليه الصلوات والدورات الخاصة به، وفي سحر يوم القيامة المقدسة أودعوا فيه الخميرة القديمة وأتموا بذلك طبخه وتقديسه. ومما هو جدير بالذكر أن البطريرك السرياني بقى بمصر حتى أخر شهر أمشير من هذه السنة حيث غادرها متوجهًا إلى القدس[71]، وقد أرسل معه البابا يوأنس الكهنة الأقباط لتوديعه حتى منية صرط (مسطرد حاليًا)[72].

الكهنة السريان يُشاركون في قداس تقديس الميرون سنة 1461م:
ومن الطريف أن هذا القرن شهد اشتراك الكهنة السريان لمرة أخرى في عملية تقديس الميرون، حيث اشتراك أثنين من الكهنة السريان المقيمين بمصر لخدمة الرعية السريانية بها، في فرحة الكنيسة القبطية بعملية طبخ وتقديس الميرون المقدس التي جرت على عهد قداسة البابا متاؤس الثاني الـ90 سنة 1177 ش (1461 م). أما اسمهما فكانا: القس يوسف ابن القس يعقوب المعروف بابن الحدب[73]، والقس العلم يوحنا المعروف بابن الحويس[74]. وهذا الأخير هو الذي قرأ فصل من رسالة البولس عربيًا في قداس التقديس يوم خميس العهد (الموافق 2/4)، وقرأ في أوله مديح للرسول الطاهر بولس، وفي أخره مديح للآباء البطاركة الأرثوذكسيين، أنبا متاؤس وأنبا أغناطيوس[75]، طالبًا أن يديم الرب أيام رئاستهما[76].

زيارات أخرى متفرقة:
في هذا العصر زارت مصر أيضًا مجموعة من رهبان ومطارنة السريان وصلت إلينا بعض أخبارهم نذكرهم حسب ما توفرت لنا المعلومات، وبحسب الترتيب الزمني:
(1) الراهب يوحنا بن شيء الله: قصد مصر للتعمق في العلوم البيعية والعقلية، ولما عاد لوطنه رشح لخدمة البطريركية الجليلة، فرُسم باسم مار أغناطيوس يوحنا الرابع عشر (1484- 1493م)[77].

(2) المطران مار أثناسيوس إبراهيم مطران بلاد المعدن: زار مصر حوالي سنة 1508م أو قبلها بقليل في عهد البابا يؤانس الثالث عشر البطريرك الـ94 (1483- 1524م)، طالبًا من البابا التدخل بينه وبين بطريركيته الطور عبديني لحل مشاكل بينهما، فكتب له البابا يؤانس رسالة للبطريرك الأنطاكي حسب طلبه[78].

وتحتفظ مكتبة البطريركية بالقاهرة بتقليد رسامة شماس سرياني من بلاد المشرق على هيكل مارمرقس والشهيد أسطفانوس بكنيسة الأقباط اليعاقبة بدير الأنبا بيشوي الذي يعرف بدير السريان، وكان ذلك يوم الثلاثاء 1 طوبة سنة 1224ش (الموافق 28 ديسمبر سنة 1507م)[79]، ومن المحتمل أن يكون المطران السابق الذكر هو الذي قام بهذه الرسامة.

(3) المطران مارغريغوريوس يوسف الرابع الكرجي (1510- 1537م): في سنة 1516م زار أديرة الأسقيط ولا سيما دير السريان في برية شيهيت، وقد جمع في هذه الزيارة طقس تلبيس الإسكيم `cxhma الدلد عن الطقس القبطي والحبشي وأصدره سنة 533[80]
(4) الراهب القس سمعان والراهب القس مكرم: اللذان جاءا إلى مصر في هذا الزمان ولكن دون تحديد تاريخ، لجمع الصدقات من المؤمنين. فكتب لهما البطريرك طرس بركة ليسهل لهما هذا الغرض[81].

سابعًا: في عهد الدولة العثمانية (1517- 1805 م):
زيارات لمطارنة ورهبان سريان لمصر وانتهاء وجود الرهبان السريان بدير السريان:

شهد هذا العصر بعض الزيارات من قبل المطارنة والرهبان السريان لمصر، كما شهد اختصار الوجود السرياني بدير السريان بوادي النطرون. ونذكر هذه الزيارات التي توفرت لنا معلوماتها:

1- مار ديسقورس منصور أسقف دير مار موسى بالنبك: (ما بين عامي 1598- 1630م):
زار هذا الأسقف مصر حوالي سنة 1602م بعد أن تجمدت عليه ديون كثيرة، فجاء طالبًا مساعدة المؤمنين من السريان والقبط، فأكرمه المؤمنون: غير أنه أدخل نفسه فيما لا يعنيه وحرم القس إبراهيم السرياني كاهن الرعية السريانية بمصر، وكان ذلك في عهد البابا إلي خدمته كاتب البطريرك الأنطاكي المعاصر (مار أغناطيوس هداية الله 1597- 1639م) برسالة يشرح فيها أخطاء هذا الأسقف، ومما جاء في هذه الرسالة اسم رئيس دير السريان في ذلك الوقت- (حوالي سنة 1602م) القمص إبراهيم البلوطي القبطي[82]، مما يفهم منه تناقص عدد الرهبان السريان بهذا الدير أمام ازدياد عدد الرهبان الأقباط وأصبح الرئيس من الفريق الأكبر عددًا.

2- الراهب توما المارديني:
زار هذا الراهب دير السريان سنة 1624م وسجل ما يفيد تناقص عدد الرهبان السريان جدًا بهذا الدير[83] مما يؤكد الاستنتاج الذي قدمناه بالفقرة السابقة. ومما هو جدير بالذكر أن هذا الراهب شاهد مكتبة الدير في أواخر عهد مجدها وعلق قائلًا (وشاهدت بها صحفًا كثيرًا مكومة بلا حساب ولا عدد..)[84].

3- مارغريغوريوس جرجس الفتال مطران القدس (1748-1773م): زار مصر في سنة توليه مطرانية القدس لجمع الحسنات من المؤمنين لتعمير دير مار مرقس بالقدس، وفي هذه الزيارة عقد مجالس للمناظرة مع الراهب انطون اليسوعي، مبينًا له صحة الاعتقاد بالطبيعة المتجسدة بعد الإتحاد، كما أجرى مناظرة أخرى مع المعلم نخلة اللاتيني شهدها كهنة الأقباط. وبعد عودته من مصر صنف كتابًا اسماه (الاعتقاد الصحيح في تجسد المسيح) أفتتحه بسرد مناظرته للراهب أنطون اليسوعي بمصر[85].