عاطف بشاى
استكمالًا لحديثنا السابق حول سطوة وجبروت شيوع الخطأ والمسلمات في حياتنا، والتى تبدأ بأكذوبة أو شائعة أو فهم مغلوط أو تصور غير منطقى تصير تراثًا وحقيقة ساطعة.. تلوكها الألسن وتستقر في عقول وقناعات الناس، استشهدت على ذلك بعدة أمثلة.. أضيف إليها في مقالى هذا في المجال الفنى شيوع اكليشيه لدى النقاد، ويروجه المتحذلقون منهم وأصحاب مناهج العلاقة الجدلية المتنامية بين الأضداد والأيديولوجيا المتباينة في اشتباكاتها التصادمية ذات المرجعية الانبعاجية بين المبدع والمتفرج المتخلف، فيؤكدون أن الجمهور متعطش دائمًا إلى سينما ترتقى بذوقه وتمس وجدانه وتخاطب عقله وتدعوه إلى التفاعل من خلال المضمون الاجتماعى أو السياسى أو الفلسفى القوى والشكل الفنى الجذاب ومناقشة قضايا واقعية والاشتباك مع أطروحاته الجادة. ويرفض أصحاب هذا الاتجاه الرأى الذي يؤكد أن هناك مفارقة عجيبة.. وهى أنه كلما تدنت الأفلام حققت جماهيرية كبيرة وإيرادات ضخمة.. وأنه كلما تطورت الفنون- بشكل عام- وليس السينما فقط.. اتسعت الهوة بين المتفرج والعمل الفنى.. وللأسف، فإن ذلك ينطبق على حال السينما زمان كما ينطبق على حال السينما الآن.. بل في كل الأزمان.
وأنا أقلب في أوراقى القديمة عثرت على مقال للناقد الكبير الراحل «سامى السلامونى» (1970) يسخر فيه من مؤسسة السينما، التي أعلنت، في أكبر مساحة من الصحف، وبكل فخر، أن ثلاثة أرباع مليون متفرج شاهدوا فيلمين فقط من أفلامها، التي بدأت بها موسمها العظيم، هما «نار الشوق» و«سفاح النساء».. ويقول الناقد: أكاد أرى مخرجى الفيلمين يخرجان لسانيهما إلى شخصى وإلى كل نقاد العالم، فهذا الرقم رد قاطع وبليغ على كل الفلسفة والمفاهيم.. والأبعاد والأعماق التي يمكن أن أتشدق بها أنا وأمثالى من هواة وجع الدماغ، والتى جعل منها «نيازى مصطفى» المخرج مادة طريفة للسخرية في فيلمه.. وهو رد يكتسب قيمته وخطورته من أنه يأتى من السلطة الوحيدة التي نتحدث باسمها جميعًا ونزعم أننا نمثلها وندافع عنها ونقدم لها ما تريد وهى الجمهور.. فالأرقام هنا صريحة جدًّا وقاطعة، وهى تؤكد بالفعل أن «الجمهور عاوز كده»، وكده وكده بالتحديد.. ولكن لماذا هو «عاوز كده».. وكيف؟، فهذه مسألة أخرى لا أحد يريد أن يناقشها، ولعل فيلم «باب الحديد» (من إنتاج 1954)، والذى قام ببطولته المخرج «يوسف شاهين» مع «هند رستم» و«فريد شوقى»، يمثل ذلك التناقض الصارخ بين السينما الراقية رفيعة المستوى الفنى وبين الإقبال الجماهيرى الشحيح.. فالحقيقة أن هذا الفيلم شارك في مهرجان «برلين» الثامن (1958)، وتم اختياره للتنافس على جائزة الأوسكار لأفضل فيلم، وتم تصنيفه ضمن أفضل 100 فيلم في تاريخ السينما المصرية في استفتاء النقاد، كما تم اختياره في قائمة أهم (1000) فيلم في تاريخ السينما العالمية، وهو من تأليف «عبدالحى أديب» وحوار «محمد أبويوسف»، والمدهش أن الجمهور كاد يحطم دار سينما أوديون ومقاعدها، بعد عشرين دقيقة من بداية عرضه.. وهتفوا بغضب جامح: «سينما أونطة.. هاتوا فلوسنا».. ذلك بسبب خيبة أمل الجمهور في فيلم لا يعكس ما اعتادوا مشاهدته في سينما تقليدية انبهر بها في زمن الملكية قريب العهد قبل ثورة (1952) اشتراكية الطابع.. تلك السينما التي تستند إلى حدوتة تجرى أحداثها في أجواء أرستقراطية ومناظر جذابة من قصور خلابة وملاهٍ وكباريهات وسيارات فارهة وموائد فاخرة.. ومظاهر ثراء وأناقة وجمال يفتقده في حياته المتواضعة.
أما بالنسبة لرسم الشخصيات فقد توقع الجمهور أن يظهر «فريد شوقى»، ملك الترسو، كالمعتاد في دور الفتوة العاتى الجبار.. فإذا به يراه في شخصية «الشيال» الفقير البائس المقهور، الذي يسعى إلى تكوين نقابة للشيالين تدافع عن حقوقهم المسلوبة.. وتظهر «هند رستم» في دور بائعة زجاجات المياه الغازية في محطة مصر، بملابس رثّة.. وافتقدوا فيها شخصية الفاتنة اللعوب التي توقع الرجال في حبائلها.. كما أن الجمهور لم يكن مستعدًّا لمشاهدة فيلم بطله الرئيسى المخرج «يوسف شاهين»، الذي يظهر على الشاشة ليمثل دور بائع جرائد أعرج مسكين.. غير متزن عقليًّا.. ناهيك عن أن أحداث الفيلم تجرى كلها في محطة مصر، دون تنوع في المنظر، في جو خانق يكتظ بحركة الركاب المتزاحمين وأصوات القطار المتلاحقة ولقطات قضبان السكك الحديدية.
وما يمكن أن يُقال عن فيلم «باب الحديد» يمكن رصده من خلال كثير من الأفلام العظيمة المميزة في تاريخ السينما المصرية، وعلى رأسها الفيلم البديع «المومياء»، إخراج «شادى عبدالسلام»، والذى أتذكر أنى شاهدته في دار العرض أنا وثلاثة متفرجين فقط.. بينما حصد الفيلم العديد من الجوائز العالمية، وحقق شهرة مدوية في العالم.. لكنه فشل فشلًا ذريعًا في العرض الجماهيرى في مصر.
بناء على ما سبق، فإن السؤال الذي يفرض نفسه هو: هل يجوز أن تُبتدع جوائز في مهرجان الدراما تسمى جوائز الجمهور؟!.
نقلا عن المصرى اليوم