عادل نعمان
والأديان ظاهرة اجتماعية تستوجب وجود مجتمعات بشرية متخاصمة ومتناحرة، أو مهادنة ومسالمة، أو مزيج من هذا وذاك حتى تتواصل السماء ويتوالى الأنبياء، وأتصور أنها ضرورة اجتماعية أيضا تفرضها الضرورة والحاجة وحيرة الناس وضيق الأفق، وتتقدم وتتنامى وفقًا لظروف المجتمعات، ويستلزم الأمر أن تنتعش هذه الأديان مع ترقى المجتمعات ونمو ثقافتها وتغير أحداثها وحضارتها، ومن المعقول والمقبول أن يبتعدا دون وصال أو اتصال، فغالبا لا ضرورة إذا افترقا، والأفضل ألا يزاحم أحدهما الآخر إذا تقابلا وتلاقيا، فلا شرّع دين من الأديان أحكاما لحدث فى علم الغيب، ولا سن تشريعا لواقعة من وقائع مجهولة، ولا حدَّ حدًّا لجريمة لم تستحدث بعد، حتى لو كانت قائمة وحاضرة فى مجتمعات مجاورة وملاصقة، وكأنما قد جاء الدين لحدود معينة ولمن حولها.. ولأن المجتمعات والناس قد جاءت إلى الدنيا قبل الأديان، فإن الأديان تالية ولاحقة بالمجتمعات، تتحرك معها وتتفاعل دون مسايسة أو مماحكة.
والدين فى دعوته مرهون بناقله وحامله ونمط حياته وحظه ونصيبه من الشقاء والنعم.. فالبداوة وما تحمله من «شظف العيش وجفاء الطبع وقسوة الطبيعة وخشونة التعامل والتواصل وما كان سائدا من وسائل البحث عن لقمة العيش من حروب وغزوات وسبى وأسر»، قد صبغت الدعوة، ما كان يجب أن تصبغها، وأضافت إليها طعما ما كان يجب أن يضاف إلى حلاوتها، وانحاز الناس إلى ما وافق هواهم وأطماعهم وفسره المفسرون والشراح وأصّلوه وكان بعيدا عن الهدف والمقصد وسار معهم ومع غيرهم إلى الآن، حتى لو كان عكس المرام والمراد.. لما سافر الدين عبر البلاد.. فقد كان للمتلقى والمستقبل الحق فى المواءمة والمطاوعة، فما كان على طبيعة الراسل وظروفه.
ولأن العبادات طقوس لله، وضعها الله للتواصل والاستدعاء والاستحضار، فهو الداعى والمستقبل والمتلقى وصاحب البيت، وزوّاره وقوف على الأبواب حين يشاء وحيث يريد، فلا فكاك منها ولا مناص عنها، إلا أن الأحكام والمعاملات وإن كانت تشريعا إلهيا، فهى لتنظيم المعاملات ورد الحقوق والمظالم بين الناس بعضهم بعضا، وقد كانت فى أغلبها أحداثا وسيناريوهات عُرضت على النبى فنزل فيها حكما.. وما كان من أحداث ووقائع غائبة ولم تعرض على النبى، غاب عنها الحكم حتى لو كانت قائمة وظاهرة فى بلاد أخرى، فكلها أحكام ومعاملات على ما كان متاحا ومسموحا وصرح الناس به، وربما واجه الناس من المواقف والوقائع ما لم يصرحوا بها خجلا أو كبرا، فأين الزمان والمكان هنا من التشريع؟. واتخذت الوقائع شكلا آخر، وتبدلت الظروف والأحوال، وظهر ما كان غائبا، فتغير الحدث بالكلية أو طرأ عليه تعديل استدعى معه تغيير الحكم أو تعديله. ونعود فى هذا إلى أمرين: الأول «حق الكد والسعاية»، والثانى «العول»، هما واقعتان كانتا فى صدر الإسلام، ولم تواجها النبى فى حياته واستوجب تعديل المسار.
الأولى: «حق الكد والسعاية»، أن حبيبة بنت زريق قد شاركت زوجها عامر بن الحارث فى أعماله، وقد كانا يقتسمان العمل فى نسج وتنظيف الملابس وصباغتها يدا بيد، فلما مات عنها زوجها أورثها أشقاؤه الربع «وفقا للشرع» وتحصلوا على باقى التركة (إلى هنا وليس عند أشقاء الزوج مخالفة شرعية)، لكنها حين عرضت مظلمتها على عمر بن الخطاب، وقد كانت هذه الثروة كلها من كدهما وسعيهما معا هى وزوجها، فتفهم عمر المسألة وأمر لها بنصف التركة كاملة، وأورثها الربع فيما تبقى وترك الباقى لإخوة المتوفى.. إلى هنا هل خالف عمر الشرع والحكم، أم غلّب العدل على الشرع؟!.
والثانية: «العول»، أنّ امرأة توفيت عن زوج وأختين شقيقتين «الورثة الشرعيون فقط»، فلما هموا بتوزيع التركة، للزوج نصف التركة «ثلاثة أسهم من ستة» وللأختين الثلثان «أربعة أسهم من ستة» وفقا للشرع، فزاد المستحق للورثة عن التركة وهى «النصف والثلثان» سبعة أسهم، والتركة ستة أسهم فقط.. فلو بدأوا بتوزيع التركة من ناحية الزوج بالنصف، فلا يتبقى الثلثان للأختين، ولو بدأوا بتوزيع التركة من ناحية الأختين بالثلثين ما تبقى للزوج النصف بل أقل، فلما عرض الأمر على بن الخطاب، أفتى له ابن عباس، والبعض قال عبدالله بن عمر بالآتى «أرأيت لو رجلا ترك ستة دراهم لرجل عليه ثلاثة ولآخر عليه أربعة، فكيف تصنع؟ ألم تجعل المال سبعة أجزاء، قال عمر: «نعم».
فهل أجاد عمر واجتهد أم خالف؟.. اجتهد لا شك فى هذا كما يجتهد الكثيرون. فيما نرى الأحكام صورة من الواقع، والواقع متغير وليس ثابتا، والحكم جاء على ما عرضه الناس على النبى فى ظروفه وأحواله وصورته.. فماذا لو تغيرت الصور والوقائع والملمات؟.. وجب ولزم تغيير الحكم وفقا للمصلحة والحاجة.
والحديث موصول.
«الدولة المدنية هى الحل»
نقلا عن المصرى اليوم