كمال زاخر
مازلنا مع استشراف ملامح الجمهورية الجديدة المرتجاة، والخروج الى النهار بعد أن خضنا مواجهات عاتية للمحافظة على وحدة واستقلال الوطن، وكان الثمن فادحًا تحمله المصريون بوعى ورباطة جأش، عبر أجيال متتابعة، وعيونهم على غدٍ أفضل لأجيالهم القادمة، كانت المسيرة وعرة بين تلال وسفوح وقمم وقيعان، لكننا عبرناها فى كل الأحوال. وكان الدرس المستفاد السعى للاكتفاء الذاتى والاعتماد على النفس، بعد تضميد جراح عديدة نالتنا بامتداد مسيرتنا.
لذلك أشرنا قبلًا إلى أن الاقتصاد هو قضيتنا الأولى، ونحن نملك مقومات بناء اقتصاد قوى بما لدينا من موارد طبيعية، وبما لدينا من موقع جغرافى متميز يربط بين الشرق والغرب، وبين الشمال والجنوب، ومازلنا قبلة العالم الباحث عن مناخ معتدل ـ رغم عواصف التغير المناخى ـ ونملك تاريخًا محل شغف العالم بما خلفه لنا أجدادنا العظماء، والذين بدأ التاريخ من عندهم
وعندما نقول "اقتصاد" فنحن نعنى بداية الإنتاج بكافة أجنحته، الزراعى والصناعى وما بينهما من تصنيع زراعى، فضلًا عن صناعة السياحة سواء التاريخية أو الدينية أو الاستشفائية، أو الترفيهية، وقد اقتحم شبابنا بقوة دوائر تقنيات المعرفة الإلكترونية وصناعاتها، وبقى أن ندبر لهم القاعدة اللوجستية الاحترافية ليترجموا فيها وبها طموحاتهم الإبداعية، على غرار التجربة الهندية، التى أوفدت رتلًا من شبابها إلى الغرب فى مهمة التعرف على تلك الصناعات واستيعاب دقائقها، وعند عودتهم أسسوا لما عرف بوادى السيلكون ومنه أبهروا العالم بتفوقهم وصارت تلك الصناعة واحدة من أهم مصادر الدخل القومى، لتنطلق الهند إلى عوالم الصناعات الإلكترونية وعوالم الفضاء، لتحفر اسمها فى قائمة الاقتصادات القوية. وتلحقها العديد من دول جنوب شرق آسيا، وهنا نذكر تجربة لا تقل أهمية فى واحدة من تلك الدول، الأقرب فى ثقافتها وشعبها إلينا، ماليزيا، والتى آمنت بقدراتها وحققت طفرات وقفزات تطرق بها أبواب النادى الدولى الصناعى، وفى بحث للدكتور أحمد محيي الدين محمد التلباني، أستاذ الاقتصاد بكلية الدراسات الاقتصادية والعلوم السياسية جامعة الإسكندرية، يصف التجربة الماليزية وأبعادها فيقول "تعتبر التجربة الماليزية في عملية التنمية الاقتصادية واحدة من أكبر التجارب العالمية الرائدة في مجال التنمية الاقتصادية، والنقطة الأساسية التي انطلقت منها ماليزيا في عملية التنمية الإقتصادية هي سياسة الإعتماد على الذات، وتعد التجربة الماليزية من التجارب التنموية الجديرة بالإهتمام والدراسة لما حققته من إنجازات كبيرة يمكن أن تستفيد منها الدول النامية كي تنهض من التخلف االقتصادى"
وهى تجربة جديرة بالفحص ونقل خبراتها وكيفية خروجها إلى براح التنمية برؤى ومخططات راعت التنوع والتعدد فى التركيبة السكانية.
نعود إلى إشكالية التصنيع فى مصر، وتجربتنا المصرية ممتدة وعميقة، ومبهرة فى انطلاقاتها الأولى، وإن تعثرت وتراجعت فيما بعد لأسباب عديدة، وعندما عادت فى السبعينيات من القرن المنصرم اتجهت فى كثيرها إلى الصناعات الاستهلاكية تأثرًا بطبيعة المرحلة التى تبنت سياسات الانفتاح وكسب تعاطف الشارع المنبهر بنموذج الرفاهية الذى يروج له الغرب
ومن بديهيات التكوين الصناعى، رأس المال، والخبرة، والمواد الخام، والمعدات الأساسية والمعاونة، والإدارة، والعمالة، والقوانين المنظمة لكل هذا، ولعل أحد أهم هذه القوانين تلك المنظمة للجمارك، سواء المتعلقة بالمواد الخام والمعدات وقطع الغيار ومستلزمات الإنتاج، استيرادًا، أو المنتجات تامة الصنع تصديرًا، فضلًا عن الضرائب والرسوم التى تفرض على دوائر التصنيع، ولنا تجربة رائدة فى هذا المجال حين تقرر إعفاء المنشآت الصناعية المقامة فى المدن الصناعية الجديدة لمدة عشر سنوات، وكانت عاملًا محفزًا فى تأسيس منظومة صناعية لافتة. وهى تجربة تستحق الدراسة ودراسة إيجابياتها وسلبياتها والإفادة منها بعد تقويمها مجددًا.
إلى جانب كل هذه المكونات تأتى العمالة الفنية، كلٌ فى مجاله، وأهمية هذا المكون، وفى وجود الميكنة المتقدمة بتقنيات إلكترونية، علاقته الوطيدة بجودة المنتج واتفاقه مع معايير الجودة العالمية، وهو من العوامل الاساسية فى قبوله فى الأسواق العالمية والقدرة على المنافسة فيها.
لذلك فالتعليم الصناعى ـ بتنوعاته ـ لابد أن يشهد تطويرًا جذريًا، يخرج من دائرة التعليم النمطى إلى التعليم فى مواقع الإنتاج الكبرى، بإنشاء وحدات تعليمية تجريبة ملحقة بالمصانع الكبرى، تمدها الدولة بالمعلمين والخطط التعليمية، ربما بما يمكن أن نسميه بالتلمذة الصناعية، ويكون تحت إشراف مزدوج من وزارة التعليم الفنى وإدارة متخصصة من المصانع، ليتوفر لدينا أجيال من العمالة المستوعبة لدقائق التعامل مع متغيرات الصناعة ودقتها، وتكون نقطة انطلاق لتوفير منتجات مطابقة للمواصفات العالمية فيتوفر لها مساحة أكبر فى المنافسة الشرسة للاستحواذ على ما تستحقه من نصيب فى خريطة التصدير والتى تترجم فى توفير العملة الصعبة، الباب الملكى لإقالة الاقتصاد من عثرته.
*كاتب معنى بالشأن العام.
نقلا عن البوابة نيوز