رجب البنا
أول لقاء لى مع البابا شنودة كان فى السبعينيات حين كنت مسؤولا عن قسم التحقيقات فى الأهرام. ذهبت إليه مع صديقى المستشار عزيز أنيس، نائب رئيس هيئة قضايا الدولة وعضو المجلس الملى، كان المفروض أن يكون اللقاء نصف ساعة كما أفهمنى الأسقف يوأنس، سكرتير البابا، لكن الحديث امتد لساعات خرجت منه بأول حوار مع البابا شنودة للصحافة، وبعد ذلك تعددت اللقاءات والحوارات المنشورة، ثم تحولت إلى صداقة وحوارات فكرية بعضها للنشر وبعضها ليس للنشر بعد أن اكتشفت أن البابا ليس فقط رجل دين ولكنه مثقف موسوعى ومفكر لديه رؤية لقضايا المجتمع المصرى وقضايا العالم وقضايا الإنسانية ومهتم بقضايا الثقافة والشباب بصفة خاصة، ويتمتع بهدوء نفسى وصفاء ذهنى، وأهدانى مؤلفاته ومنها كتاب يعبر عن شخصيته بعنوان «الهدوء» كما أهدانى مجموعة من تسجيلات لمواعظه، وكان مما يلفت نظرى اتساع معرفته بالتراث الفكرى والأدبى العربى القديم بما فى ذلك التراث الإسلامى، وفى أحاديثه يستشهد بآيات القرآن.
وبعد كل لقاء كنت أعود ومعى علبة شيكولاتة يقول لى (دى علشان محيى وأمانى) وعلبة أقلام فلو ماستر ويقول لى (لكى تكتب مقالاتك بقلم البابا شنودة) وفى مرة أهدانى ساعة فيها صورته وقال لى (لكى أكون معك دائما). وعندما قام بأول زيارة له إلى أمريكا أجريت معه حوارا عن نتائج هذه الرحلة، نشر على صفحة كاملة فى الأهرام، تحدث فيه عن ملاحظاته على المصريين فى المهجر وأهمها أن الجيل الثانى لم يعد يعرف اللغة العربية، وطالب الدولة بأن تنظم رحلات لهم لكى يتعرفوا على بلدهم وأن تيسر لهم تعلم اللغة العربية، وقرر أن تبدأ الكنيسة بالمشاركة فى القيام بهذا الدور، وفعلا بدأت الكاتدرائية بعدها تنظيم رحلات للشباب المقيم فى الخارج لزيارة معالم القاهرة والإسكندرية وأسوان والأقصر، وتنظم لهم محاضرات عن الحضارة المصرية وما يتحقق فى المجتمع المصرى من إنجازات.
وبعد أن تكررت اللقاءات والأحاديث لسنوات شجعنى ذلك على أن أطلب منه أن يكتب مقالات فى الأهرام فاستجاب، وكانت مقالاته عن موضوعات وقضايا وطنية واجتماعية، وفى مناسبة عيد الميلاد طلبت منه أن يكتب مقالا بهذه المناسبة على أن يكون هذا المقال ومقالات أخرى على صفحة كاملة احتفالا بهذه المناسبة التى سميناها عيد المصريين، وأصبح ذلك تقليدا سنويا فى عيد الميلاد وعيد القيامة، ولأنى كنت معجبا بطريقته المنظمة فى كتابة المقال بخط جميل (ولم يكن يماثله إلا خط نجيب محفوظ كنت أحتفظ ببعض أصول مقالاتهما) وكان يقسم الصفحة من الورق المسطر نصفين بالطول وكأنها عمود فى الجريدة، وظلت صفحة العيدين تقليدا استمر حتى اليوم.
وفى الثمانينيات طلبت منه أن يلتقى بعدد من الزملاء فى الأهرام فرحب بذلك وتكررت هذه اللقاءات فى الكاتدرائية وفى دير الأنبا بيشوى ونشرت بعض ما دار فيها فى الأهرام وفى مجلة الشباب، وفى نهاية كل لقاء كان البابا شنودة ينظم لنا عشاء يستمر خلاله الحوار، وكان من المشاركين فى هذه اللقاءات الدكتور عبد المنعم سعيد، وسلامة أحمد سلامة، والدكتور أسامة الغزالى حرب، والدكتور وحيد عبد المجيد، وصلاح الدين حافظ، والدكتور طه عبد العليم، والدكتور محمد السيد سليم، وظل العدد يتزايد، فكان البابا يرسل إلينا أتوبيسا ينقلنا إلى الدير، فنجلس حوله قريبا من بحيرة صغيرة كان البابا يلقى فيها قطع الخبز للسمك التى يعيش فيها ويقف أمامها يتأمل طويلا.. وأذكر أننا ذهبنا إلى الدير فى يوم من أيام شهر رمضان فوجدنا البابا قد أعد لنا إفطارا فيه قمر الدين والكنافة والقطايف، وأعد لنا مكانا لنؤدى فيه صلاتى المغرب والعشاء، وراديو لنستمع منه إلى أذان المغرب، وبعدها كتبت موضوعا بعنوان (صلينا المغرب فى دير الأنبا بيشوى).
وحين انتقلت من الأهرام رئيسا لدار المعارف ومجلة أكتوبر، كان البابا شنودة هو أول من زارنى مع عدد من الأساقفة، وكانت هذه أول زيارة للبابا لمؤسسة صحفية، وتكررت زياراته وفى كل مرة يلتقى مع المحررين ويجيب على أسئلتهم وننشر الحوار فى المجلة.
وحين كنت أعد مواد كتابى «حوارات مع البابا شنودة» قضيت فى صحبته يوما كاملا. وقضيت الليل فى «قلاية» فى الجزء المخصص للبابا من الدير، وسجلت معه عشرات الشرائط فى الحوار معه لم يتسع الكتاب لها كلها ومازلت أحتفظ بهذه الشرائط وأعتز بها، وقد طبع هذا الكتاب ثلاث طبعات وأعد الآن طبعة جديدة أضيف إليها ما لم تتضمنه الطبعات السابقة.
كنت ومازلت أرى أن البابا شنودة من القلة من رجال الدين، الذين يجمعون بين الواجب الدينى والاستغراق فى العبادة والعزلة، ورعاية أبنائه الأقباط الذين يقول لى عنهم (أنا أبوهم) وبين معايشة الحياة والمجتمع، وكان مهتما بالقضايا العربية ويقول (إن ما يؤلم أى شعب عربى يؤلمنا)، وكان يتابع تطورات القضية الفلسطينية بصفة خاصة ويلتقى بياسر عرفات كلما جاء لزيارة القاهرة، وظل إلى آخر لحظة من حياته يرفض زيارة الأقباط للقدس وهى تحت الاحتلال، ويردد المبدأ الذى تمسك به «لن ندخل القدس إلا مع ياسر عرفات وبتأشيرة من دولة فلسطين»، وله كتيب عن مزاعم إسرائيل عن حقهم التاريخى فى فلسطين ووعد الله لهم بها وادعائهم أنهم شعب الله المختار الآن كما كانوا فى زمن نزول التوراة، ويرى أنهم «كانوا شعب الله المختار حين لم يكن على الأرض شعب آخر يؤمن بالله، واختاره الله ليرسل إليه رسولا، وبعد ذلك لم يعودوا وحدهم المؤمنين أصحاب رسالة سماوية، وأصبح لله شعوب أخرى مختارة مؤمنة».
سألته يوما عن موقف المسيحية من السياسة وعما كان وقتها يشاع عن إنشاء حزب مسيحى فى مقابل الإخوان والجماعات الإسلامية فنفى ذلك بشدة وقال فى حديث منشور إنه يرفض قيام حزب مسيحى، والمسيحيون مثل كل المصريين يشاركون فى كل الأحزاب، والمسيحية دين وليست سياسة وليس فيها دعوة للحكم، وكتب مقالا للأهرام بعنوان «المسيحية والسياسية» قال فيه إنه يجب التفرقة (السياسة) وبين (الوطنية). والكنيسة لها دور وطنى واجتماعى لأنه لا تفرقة بين الروحى والوطنى والاجتماعى، وحين نساعد إنسانا يمر بضائقة أو نساعد فى حل المشاكل الاجتماعية للأفراد والأسر المحتاجة أو تتعاون الكنيسة مع الدولة فى التدريب والتعليم هل يعتبر ذلك تدخلا فى السياسة؟ وهل إذا انعزلت الكنيسة وتفرغت للصلوات والعبادات يكون ذلك تحقيقا لرسالتها؟ وأرى أن الواجب أن تندمج الكنيسة فى المجتمع وتؤدى دورها الروحى دون تعارض، وفى ثورة ١٩١٩ كان القساوس يخطبون فى الأزهر ضد الاحتلال وتعاونت الكنيسة مع الأزهر ورجاله، فهل كان ذلك خروجا على الخط الروحى للكنيسة وتدخلا فى السياسة أم كان أداء لواجب وطنى ونحن ندين بالولاء للوطن، وندعو فى صلواتنا أن يمد الله رئيس الدولة بروح النصر وأن يلهمه الحكمة والسداد، وإخلاصنا للدولة أمر عقيدى يوصينا به الكتاب المقدس.
وسألته عن موقفه من الجماعات التى تدعو إلى تطبيق الشريعة الإسلامية فقال: لا نرفض تطبيق الشريعة الإسلامية ولكن يجب أن نعرف أولا ما هى الشريعة الإسلامية التى يمكن أن تطبق وكيف سيتم تطبيقها، وكيف سيكون مكان الأقباط فى الدولة التى تطبق الشريعة؟ أما الدعوات والشعارات العامة المبهمة التى تطلقها الجماعات فهى دعوات عامة وشعارات بدون برامج أو تفاصيل حتى نعرف ماذا يريدون.
وعن الأحزاب قال إن هدفنا أن يعيش الإنسان فى سلام روحى مع الله وذلك يفرض أن يكون الإنسان فى سلام مع الآخرين المتفقين معه أو المختلفين عنه، على حد سواء، ولذلك يجب أن تكون الأحزاب وسيلة للتوصل إلى ما يفيد الجميع وتتعاون للصالح العام ولا تكون سببا للتفرقة.
وفى حديث قال لى: أنا مواطن مصرى، يخدم الله بخدمة الناس، ويصلى للكنيسة وللوطن، ويتطلع إلى السماء من أجل طلب النعمة للأرض كلها، وحين أرادت مجلة الهلال إصدار عدد خاص عن القرآن وطلبت منى أن أكتب مقالا فيه، فكتبت مقالا بعنوان (القرآن والمسيحية) أعجب به كثير من المسلمين قلت فيه إن هناك نقاطًا كثيرة بين الإسلام والمسيحية، ومواقف كثيرة تشهد بأن الأقباط كانوا مصريين قبل أن يكونوا أقباطا.
وحين صدر كتابى (حوارات مع البابا شنودة) تلقى قداسته أول نسخة منه ومازلت أحتفظ بصورته وهو يتصفح الكتاب..
والحديث يطول.
نقلا عن المصرى اليوم