محمد أبو حامد
إن الوجود يتداعى إذا لم تكن هناك [فكرة قوية] أو [مثال قوى] يتمسك به الفرد - بحسب تعبير “فرويد”، ويقول “ألبرت أينشتاين”: (إن الإنسان الذي يعتبر حياته بلا معنى ليس مجرد إنسان غير سعيد، ولكنه يكاد لا يصلح للحياة)، وعلى حد التعبير “الأوجستيني”: (فإن قلب الإنسان لا يجد سبيلاً إلى الراحة إلا إذا وجد في هذه الحياة معنى وهدفاً يعمل على تحقيقهما).
ويقابل ذلك بحسب وصف الكاتب النمساوي “فيكتور فرانكل” في كتابه [الإنسان والبحث عن المعنى] : الشعور [باللا معنى] أو الشعور بالفراغ الوجودي، حيث لا يعرف الإنسان ما الذي يرغب أن يفعله، وبدلاً من ذلك: فإنه إما أن يرغب في أن يفعل ما يفعله الآخرون [التواؤمية]، أو أنه يفعل ما يرغب الآخرون منه أن يفعله [الاستبدادية]، ويكشف هذا الفراغ الوجودي عن نفسه أساساً في حالة الملل، وهنا نفهم كلام الفيلسوف الألماني “شوبنهاور” حينما قال: (إن الإنسانية قد حكم عليها بشكل واضح أن تتأرجح إلى الأبد بين طرفين أحدهما الضيق، وثانيهما الملل)، وهناك أقنعة مختلفة ومظاهر متعددة يبدو بها الفراغ الوجودي، ففي بعض الأحيان يكون هناك تعويض لإرادة المعنى المحبطة ب [إرادة القوة] مثل إرادة المال وغيره مما يظن الإنسان أنه سبيل للقوة، وفي حالات أخرى تحل [إرادة اللذة] محل إرادة المعنى المحبطة. وهذا هو السبب في أن الاحباط الوجودي ينتهي غالباً بالتعويض الجنسي.
إن الوجود متسامي، فالتسامي على الذات هو جوهر الوجود، وكون الإنسان إنساناً يعني توجهه إلى شيء آخر غير ذاته، وأن يكون منشغلاً ومشتبكاً بموقف، فكون الإنسان إنساناً يعني أن يواجه معنى وقيماً يجب تحقيقها، أي العيش في مجال التوتر القائم بين الواقع وبين المثاليات التي يتم العمل على تحقيقها، فالإنسان يعيش بالمثل والقيم، وإن الاهتمام الأصيل والطبيعي للإنسان والمنصب على المعنى والقيم يتعرض للخطر نتيجة لسيطرة النزعة الذاتية والنزعة النسبية، فمن شأن أي من هاتين النزعتين أن تُودي بمثالية الإنسان وحماسه.
ولكن هل المعاني والقيم نسبية وذاتية كما يعتقد البعض؟، إنهم كذلك على نحو ما، وبحسب فرانكل:ولكن على نحو يختلف عن ذلك الذي يراه أصحاب النزعة النسبية والذاتية. فالمعنى نسبي من حيث أنه يتعلق بشخص معين مشتبك بموقف. ويمكن القول بأن المعنى يختلف أولاً من إنسان لآخر، وثانياً من يوم ليوم، بل ومن ساعة لساعة، وأفضل أن أتحدث عن تفرد - Uniqueness - بدلاً من نسبية المعاني. فالتفرد خاصية للحياة ككل وليست لموقف معين فقط،وذلك نظراً لأن الحياة سلسلة من المواقف المتفردة. وهكذا فإن الإنسان فريد فيما يتعلق بكل من جوهره ووجوده، فلا يوجد إنسان يمكن أن يحل أخر محله، وذلك بفضل تفرد جوهر كل إنسان. وحياة كل إنسان فريدة من حيث أنه لا أحد يمكن أن يكررها، وعاجلاً أو آجلاً سوف تنتهي حياته للأبد، مع كل الفرص الفريدة لتحقيق المعاني.
يقول الحكيم اليهودي “هلل” الذي عاش قبل ألفي عام: (إذا لم أفعلها أنا، فمن يفعلها؟ - [وفيه إشارة إلى تفرد ذاتي] -، وإذا لم أفعلها في الحال، فمتى أفعلها؟ - [وفيه إشارة إلى تفرد اللحظة العابرة] -، ولكن إذا فعلتها من أجل نفسي فقط، فماذا أكون؟ - [وفيه يعبر عن خاصية التسامي على الذات المميزة للوجود الإنساني]-، وإجابة هذا السؤال الأخير: لا أكون إنساناً بحق على الإطلاق، وذلك لأن التسامي على الذات خاصية متأصلة في الوجود الإنساني).
لا يمكن إعطاء المعنى على نحو استبدادي،ولكن يجب أن توجد المسئولية وفقاً لما يميليه الضمير، فالضمير هو: المقدرة القصدية للإنسان على أن يجد المعنى لموقف من المواقف، فهو يرشد الإنسان في بحثه عن المعنى.
المسئولية هي الجوهر الحقيقي للوجود الإنساني، فالإنسان مخلوق مسئول، وينبغي أن يحقق المعنى الكامن لحياته.
الحرية الغائية [أي قدرة الإنسان أن يختار اتجاهه من بين مجموعة من الظروف، تلك التي اعترف بها الفلاسفة الرواقيون القدامى، وكذلك الوجوديون المحدثون] هذه الحرية وحدها كافية ليصيغ الإنسان معادلة الحياة: (لكي تعيش عليك أن تعاني، ولكي تبقى عليك أن تجد معنى للمعناة)، الإنسان ليس مفعولاً به على الدوام، تتقاذفه الأمواج النفسية والحياتية، من دون أن يملك تغييراً كما يرى تيار “الحتمية الشمولية”، وإنما الإنسان بحسب “فرانكل” ليس مشروطاً أو محتوم السلوك بصورة كلية، لكنه يقرر نفسه، الإنسان ليس ببساطة أمراً موجوداً، بل هو يقرر دائماً وجوده الذي سيكون عليه.
وبحسب “فيكتور فرانكل”: (ويل لمن لا يرى في الحياة معنى، ولا يستشعر هدفاً أو غرضاً لها، ومن ثم لا يجد قيمة في مواصلة الحياة، وسرعان ما يحس بالضياع)، إن أي محاولة يستخدمها الشخص لكي يسترد قوته الداخلية ينبغي أن تنجح أولاً في أن تجعله يبصر لنفسه هدفاً مستقبلياً، وفي ذلك نأخذ من توجيهات الفيلسوف “نيتشه” : (من يمتلك سبباً يعيش من أجله فإنه يستطيع غالباِ أن يتحمل بأي طريقة وبأي حال).
نقلا عن البوابة نيوز