بمناسبة إنجيل الأحد الثاني من شهر توت
القمص يوحنا نصيف
للقدّيس كيرلّس الكبير تعليق جميل وعميق على قول السيّد المسيح في (لو10: 21) "أحمدك أيّها الآب، ربّ السماء والأرض، لأنّك أخفيتَ هذه عن الحُكماء والفُهماء، وأعلنتها للأطفال..".
نلاحظ في تعليق القدّيس كيرلّس أنّه يستعين في شرحه بالعديد من أقوال القدّيس بولس الرسول.
ملخّص التعليق ما يلي:
1- سِرّ الله الآب الذي كان مكتومًا هو تَجَسُّد ابنه الوحيد، لكي ننال فيه نعمة التبنّي.
2- نحن مختارون ومُعيَّنون للتبنّي في المسيح، ولكي نكون قدّيسين وبلا لوم قُدّامه في المحبّة.
3- عندما نؤمن بالمسيح نَقبَل هذا السرّ، كأطفال بسطاء في الشرّ، لا يفتخرون بحكمة هذا العالم.
4- الذين يرفضون المسيح، بسبب كبريائهم وافتخارهم بحكمتهم، سيخسرون ملكوت الله، إذ لا ينالون نعمة التبنّي له.
الآن لنقرأ بهدوء نصّ تعليق القدّيس كيرلّس:
+ الآب كشف لنا السرّ الذي كان مكتومًا ومحفوظًا في صمتٍ عنده، من قبل إنشاء العالم، الذي هو تجسُّد الابن الوحيد؛ الذي كان معروفًا سابقًا حقًّا، قبل إنشاء العالم، ولكنّه أُعلِنَ لسكّانه في أواخر الدهر. فالمبارك بولس يكتب: "لي أنا أصغر جميع القدّيسين، أُعطِيَت هذه النعمة، أن أبشِّر به بين الأمم، بغِنى المسيح الذي لا يُستقصى، وأنير الجميع في ما هو تدبير السرّ المكتوم منذ الدهور، في الله خالق الجميع" (أف3: 😎.
+ إنّ هذا السرّ العظيم المسجود له، الذي لمخلّصنا، كان مِن قبل تأسيس العالم، مَخفِيًّا في معرفة الآب. وبالمِثل، سبقَ أن عَرَفَنا (الآبُ)، وسبق أن عيَّنَنَا لتبنّي البنين. وهذا ما يُعَلّمنا إيّاه أيضًا المُبارك بولس، بقوله: "مبارك الله أبو ربّنا يسوع المسيح، الذي باركنا بكلّ بركة روحيّة في السماويّات، في المسيح. كما اختارنا فيه، قبل تأسيس العالم، لنكون قدّيسين، وبِلا لوم قدّامه في المحبّة، إذ سبَقَ فعيّننا للتبنٍّي، بيسوع المسيح نفسه" (أف1: 3-5). فلنا إذَن -كما للأطفال- كَشَفَ الآبُ السرَّ الذي كان مَخْفِيًّا، ومحفوظًا في صمتٍ، طوال الدهور.
+ لقد سبقنا في هذا العالم، حشدٌ كبير، كانوا على مستوى الكلمات، لهم لسان طلِق متميِّز، لهم سُمعة كبيرة في الحكمة، وفي فخامة التعبير، والأسلوب الجميل، ولكن كما قال عنهم بولس: "حمقوا في أفكارهم، واظلمّ قلبهم الغبي.. لذلك أسلمهم الله إلى ذهنٍ مرفوض" (رو1: 21-25)، "وجعل الله حكمة هذا العالم جهالة" (1كو1: 20)، كما أنّه لم يُعلِن لهم السرّ. أمّا لنا نحن، فقد كَتَبَ: "إن كان أحدٌ يظنّ أنّه حكيم بينكم في هذا الدهر، فليصِر جاهلاً لكي يصير حكيمًا، لأنّ حكمة هذا العالم هي جهالة عند الله" (1كو3: 18). لذلك، فيُمكِن للمرء أن يؤكِّد، أنّ مَن له مجرَّد حكمة العالم فقط، هو جاهل وبلا فهم أمام الله، ولكن مَن يَظهَر أنّه جاهل في نظر حكماء هذا العالم، ولكن له في قلبه وفكره نور رؤية الله الحقيقيّة، فهو حكيم أمام الله.
+ بولس أيضًا قال: "انظروا دعوتكم أيها الإخوة، أن ليس كثيرون حكماء حسب الجسد، ليس كثيرون أقوياء، ليس كثيرون شرفاء، بل اختار الله جُهَّال العالم ليخزي الحكماء" (1كو1: 26). فالذين يَظهَرون كأنّهم جهلاء، بمعنى أنّهم ذوو ذِهن نقي وعديم المكر، وهُم بسطاء كأطفالٍ في الشرّ، لهؤلاء أعلنَ الآبُ ابنَه، إذ هم أنفسهم أيضًا قد سبق فعرفهم، وسبق فعيّنهم لتبنِّي البنين.
+ من المناسب في ظنّي أن نُضيف أيضًا.. أنّ الكتبة والفرّيسيين، الذين بلغوا شأنًا عظيمًا عند اليهود، بسبب عِلمِهم الناموسيّ، كانوا يَعتَبِرون أنفسهم حكماء، ولكن حُكِمَ عليهم بنفس النتيجة، أنّهم ليسوا هكذا في الواقع، فإرميا النبي يقول: "خزِيَ الحكماء، ارتاعوا وأُخِذوا، ها قد رَفَضوا كلمة الربّ، فأيّة حِكمة لهم؟" (إر8: 9)، لأنّهم رفضوا كلمة المخلِّص، أي رسالة الإنجيل الخلاصيّة، أو بعبارة أخرى، كلمة الله الآب الذي مِن أجلنا صار إنسانًا، لذلك فهُم أنفسهم قد رُفِضوا..!
+ قد أُخفِيَ عنهم سرّ المسيح أيضًا، لأنّه قال عنهم في موضِعٍ ما لتلاميذه: "قد أُعطِيَ لكم أن تعرفوا أسرار ملكوت السموات، وأمّا لأولئك فلم يُعطَ" (مت13: 11). "أُعطِيَ لكم"، أي لمَن؟ هو بوضوح للذين آمنوا، لهؤلاء الذين تعرَّفوا على ظهوره، للذين يفهمون الناموس روحيًّا.. الذين يعترفون أنّه الله وابن الله، لهؤلاء سُرّ الآب أن يُعلِنَ ابنه..
[عن تفسير إنجيل لوقا للقدّيس كيرلّس السكندري (عظة 65) - إصدار المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائيّة - ترجمة الدكتور نصحي عبد الشهيد]
القمص يوحنا نصيف