فاطمة ناعوت
لأننى أمٌّ لصبىّ جميل مصاب بـ«طيف التوحد»، فقد اشتركت في صفحات وجروبات خاصة بالمتوحدين، تتبادل فيها الأمهاتُ تجاربهن مع أطفالهن. بالأمس قرأتُ «بوست» لأمٍّ غاضبة تحكى عن سائق تاكسى قال لابنها: «يا حيوان!»، ثم فرَّ دون أن تقتصَّ منه، وتسأل: كيف يمكنها أن تأخذ حق ابنها؟، وتفاوتت التعليقاتُ ما بين الغاضبة والمُحسبنة والداعية على السائق بالهلاك، وأخرى تدعو الأمَّ للغفران وتجاوز الغضب. وكالعادة حين أصطدمُ بمثل هذه المحن، أهربُ إلى منطقة اطمئنانى الخاصة، فأجدُ سلواى في «الحب» لإيمانى بأن غيابه هو أصلُ جميع شرور العالم، دون استثناء. هو «القانون» الذي غرسه أبى في طفولتى، ويزداد إيمانى بصحته يومًا بعد يوم. أسمّيه «قانونًا»؛ وليس مجرد «نظرية» أو «فكرة»، لأن له مئات الأدلة الثبوتِية التي كوّنتُها عبر تجاربى وقراءاتى، حوّلت النظريةَ والملاحظة إلى قانون صارم. تأمَّلْ فكرة: «جميع شرور العالم سببها غياب الحب»، ثم حاوِل تطبيقها على كل ما مرَّ بك من شرور؛ سواء في حياتك الواقعية أو فيلم شاهدته أو حكاية سمعتها. على الأغلب ستُقرُّ معى بأن غياب الكنز الثمين الذي اسمه «الحب» هو سبب أزمات البشرية، بما فيها الفقر والمرض والظلم والطائفية والإرهاب والحروب وحتى الجوائح والكوارث التي صنعها الإنسانُ حين غفل عن حبّ الإنسان والطبيعة وركض وراء مصالحه الصغيرة. علينا أن نحذرَ غيابَ الحب من حياتنا؛ لأن هذا الغياب سوف يعقُبه غيابُ «الحق والخير والجمال» من الحياة، ثم لا يتبقى بعد ذلك إلا غياب «الحياة»؛ ذاتِها.
فإن قبضتَ على نفسك مُتلبّسًا بالكراهية، فاعلمْ أنك في خطر. مصدرُ الخطر ليس «مَن تكره»، إنما الخطرُ قادمٌ منك «أنت»، متوجهٌ صوبكَ «أنت»، فالبُغضُ رصاصةٌ مُرتدّة، ترتدُّ صوب قلبك، قبل أن تصل إلى خصمك. أنت اليوم تمثّلُ خطرًا داهمًا على نفسك!، ففضلًا عن أن الكراهية تُدمّرُ سلامك النفسى وتسبب خللًا في هرمونات جسمك وتقتل هرمون السعادة داخلك، وتجعلك ترى كل شىء من خلال غلالة سوداء من الحزن والغضب وعدم الرضا، إلا أنك كذلك مستعدٌ لارتكاب جميع الخطايا التي عرفها الإنسان لتغذية الوحش الساكن داخلك ولا يشبع: «البغضاء». لا تستثنِ أي خطيئة عن خيالك. لو توفرت لديك أدواتُ أي جريمة؛ فسوف تأتيها. أنت فقط رهن توفُّر ظروف مناسبة لارتكاب الخطايا. غيابُ الحب عن قلبك جعلك عبدًا أسيرًا للوحش الذي احتلَّ روحك، تعيش عمرك كلّه لتغذيه ولا يشبع، وتُرضيه ولا يرضى.
حاولتُ اختبار جميع خطايا البشر، فتحقّقت المعادلة دون استثناء، فحين تقتلُ؛ فلأنك لم تحب. وحين تظلم فلأنكَ لم تحبّ. وحين تكره؛ فلأنك أخفقتَ أن تحب. وحين تسطو على حقوق ذويك؛ فلأنك لم تُحب. وحين تكون أنانيًّا أو عنصريًّا أو طائفيًّا، فبالقطع قلبُك قد غاب عنه الحب.
«ظاهرة الحب لدى الإنسان» كان عنوان أحد صالوناتى الشهرية التي توقفت مع جائحة كورونا. واخترنا، أنا والفنان المتصوف الجميل «سمير الإسكندرانى»، الأب الروحى للصالون، «أم الغلابة» نموذجًا للحب لمناقشة حياتها. هي السيدة التي أحبّت دون شرط ودون انتظار مقابل لأن مَن أحبتهم لا يملكون أصلًا ما يقدمونه لها، ماديًّا ولا حتى معنويًّا، فهم أفقرُ وأغلب وأشقى من أن يقدموا أي شىء مما يقدمه الناسُ للناس. أحبت مرضى «الجذام»، الذين يفرُّ الناسُ منهم خشيةَ العدوى، لهذا يعزلونهم في منافٍ وجزر بعيدة حتى يموتوا وحيدين في صمت. احتضنتهم وحملت أطفالهم مقروحى الأبدان. قبّلتهم غير عابئة بالميكروب الخطير الذي يفتك بالجسد. حوّلت معبدًا هنديًّا يسمى معبد«كالى»، وهو إله الموت والدمار عند الهندوس، إلى دار لرعاية المصابين بأمراض لا شفاء منها حتى يتمتعوا بالحب والرعاية في أيامهم الأخيرة. أنشأت مئات من دُور الأيتام، جعلتهم يشعرون فيها كم هم محبوبون ذوو كرامة. وارتدَت طوال حياتها ثوبًا بسيطًا أبيض اللون مثل السارى الهندى، له إطار أزرق عند الكُمّين. وجعلت الراهبات القائمات على تلك الدُّور يرتدين مثلما ترتدى لكى يتعرف المحتاجون عليهن بسهولة، فيطلبوا منهن المساعدة. إنها الراهبة الألبانية الجميلة «الأم تريزا»، أم الفقراء والمجذومين واليتامى. وُلدت عام ١٩١٠، ورحلت عن عالمنا عام ١٩٩٧، بعدما نالت جائزة نوبل للسلام عام ١٩٧٩. عاشت تحاربُ عدوًّا واحدًا اسمه: «مرض نقص الحب». ولم تعترف بين كل ما نالت من ألقاب؛ إلا بلقب واحد هو: «أم الغلابة» لأن الغلابة هم أقربُ البشر إلى الله. النقية البتول، أحببتكِ دون أن أراك، كما أحبّكِ مليارات البشر في شتى أرجاء الأرض. ولأنك اخترتِ أن تغادرى عالمنا يوم ٥ سبتمبر، وهو موعد رحيل أمى إلى الله، فأنا أعزّى نفسى فيكِ مرتين. طوبى لكِ ولكل مَن تعلّم «الحبَّ» وعلّمه لكى يصل إلى الله.
نقلا عن المصرى اليوم