د. منى نوال حلمى
ممارسة الشدة على الجسد.. اختيار الدرب الأصعب
الشدة على الجسد هى عدم استسلامه للرفاهية، فيصبح هشًّا، خاملًا، مترهلًا، ولا يقاوم أى شىء. لا أقصد بالضرورة ممارسة الرياضة. ولكن أن يتعود الإنسان أن يشتغل فى بيته بنفسه، كلما كان قادرًا وغير منشغل، وكلما جاءت الفرصة للاستغناء عن السيارات والتاكسيات والمترو والباصات، ويمشى مسافة معقولة، وعلى طريق ليس وعرًا أو ملوثًا، يكون أفضل. وعندما يمرض الجسد، نعطيه فرصة لكى يشتغل بالمناعة الطبيعية وبالصيدلية داخله، دون تدخل كيماويات وأدوية. وفى الشتاء، يجب ألّا نفرط فى الملابس الثقيلة، والتدفئة، التى - على عكس الشائع- ستضعف أجسادنا، باحتياجها إلى المزيد والمزيد من التدفئة. المهم هو تعريض الجسد للصعوبات والتحديات، ونتركه يقوى نفسه بالانتصار على هذه الصعوبات والتحديات، فالجسد مثل أى شىء آخر، يتطبع بالطبع الذى نعوده عليه، والعادة لها سلطان قوى على النفوس. وأوضح مثل وأقوى دليل هو ملايين الزيجات المستمرة رغم أن أطرافها يودون الهروب والانعتاق، لكنهم بحكم العادة سنوات أصبحوا سجناء وأسرى العادة. وهذا سبب الكآبة والتعاسة والاكتئاب والعزلة وأمراض النفس والجسد والانتحار والخيانات والجرائم. «التعود» على الأشياء الضارة القبيحة الملوثة هو الخطر الحقيقى، وليس الضرر والقبح والتلوث. كانت أمى «نوال» تردد دائمًا أن جدى، أى أباها السيد السعداوى، كان يُذكرها بمقولة: «احترمت نفسى حين خيّرتها بين السهل والصعب، فاختارت الصعب».

نقص الحرية وليس نقص الفلوس وارتفاع الأسعار
حين تطالب المرأة بحقوق وحريات النساء، يبدو الأمر عاديًّا، ومتوقعًا، فهى تدافع عن بنات جنسها، وتمارس، ما يؤكد صدق حقيقة- تدعمها حركة التاريخ- والقائلة بأن كل فئة مقهورة عليها أن تتبنى قضيتها، وتحرر نفسها. فكما فى الموت، لا أحد يمكنه أن يكون بديلًا عن أحد، كذلك فى معركة الحرية الإنسانية، لا أحد يمكنه أن ينوب عن أحد. وهنا تكمن عظمة الحرية، فهى لا تذهب إلا إلى مَن يدفع ثمنها الباهظ.

أما حين يطالب الرجل بحقوق وحريات النساء، ويمارسها فعلًا، وليس قولًا، فهو أمر غريب، يثير الدهشة، والاستنكار إلى حد الاتهام بأنه ناقص الرجولة، ضعيف الشخصية.

هذا الرجل الذى يخذل المعتاد، هو رجل نادر الوجود، يؤمن أن معيار التقدم الإنسانى ليس فى انتشار التكنولوجيا المعقدة، وإدارة الحياة بالأزرار. لكنه فى العقلية التى تستخدم الأجهزة، وتحرك الأزرار.

وفى الواقع، نرى ملايين الرجال الذين يستطيعون إخضاع «أحدث» الماكينات وأجهزة الكمبيوتر، لكنهم عاجزون عن إخضاع «أقدم» نزعات التملك والعنصرية والعنف.

نحن لا نريد الرجل الذى يتعامل بكل بساطة مع الهواتف الذكية، لكننا نريد أن ينتقل الذكاء إلى عقله، فيُجيد التعامل مع امرأة ند له، أو تفوقه، دون حساسية، أو عُقد موروثة.

كم من رجل على كوكب الأرض يحترم نفسه لأنه يفتح للمرأة الأبواب والنوافذ المغلقة؟؟. كم من رجل فى واقعنا يفتخر بإنسانيته لأنه لا يرحب بأى علاقة مع امرأة تتبعه، وتطيعه؟؟. يحتاج إلى امرأة ترتقى به، وبالحياة لأنها متشبثة بحريتها الكاملة دون نقصان.

مثل هذا الرجل نادر كما المطر فى الصيف. وأكاد أزعم ألّا وجود له. وأود أن أقول للرجل السعيد بامتيازاته الذكورية، ولا يريد التنازل عنها، إن هناك سعادة أكبر وأنبل وأكثر ديمومة وأشهى ثمارًا، وهى تلك الناتجة من علاقاته بنساء حرائر، وبتخليه راضيًا عن سلطات وصلاحيات منحه له الفكر الذكورى.

إن البيوت تُخرب بالطلاق وغيره من الأشكال أساسًا بسبب نقص الحرية، والعدالة، بين النساء والرجال. وليس لنقص الفلوس، وغلاء الأسعار، فالبيت الحر يستطيع التكيف مع أصعب المشكلات والأزمات، حتى لو كان من القش. والبيت المؤسَّس على عدم العدالة فى الحريات ينهار، حتى لو كان قصرًا من أغلى أنواع الرخام.

لماذا لا أحب كلمة التسامح؟
الجميع يطالب بالتسامح على أساس أنه صفة إيجابية راقية، تدل على استيعاب وتقبل الآخر المختلف. لكن كلمة التسامح نفسها عنصرية، تدل على الاستعلاء والأفضلية والتفضل والتكرم من قِبَل الشخص، أو المجتمع الذى يقدم التسامح. المفروض أننا نتقبل الجميع، هذا هو «الطبيعى» مع بشر متساوين فى كل شىء. إننى أسامح شخصًا عندما يرتكب خطأ أو جُرمًا يؤذينى أو يتعدى على حرياتى وخصوصياتى. لكن الاختلاف الشخصى فى المعتقدات والأفكار ليس إيذاء لآخرين. الحالة الوحيدة التى تصبح فيها المعتقدات والأفكار جريمة هى عندما يتعمد أصحابها فرضها بالقوة على الآخرين، وتهديدهم لهم إذا لم يعتنقوها، أو حتى قاموا بمجرد انتقادها.

ليتنى أعرف موعد ومكان موتى
لا أمشى أبدًا حسب معتقدات الناس.. طبيعتى وطباعى وراحتى ومتعتى وحقيقة وجودى ودورى فى الحياة، كما أؤمن بها، هى أن أخلق أفكارى، وإن لم تعجب أحدًا. أعتقد أن هذا هو «شرفى»، ولو هُوجمت من أتباع غشاء البكارة. من المقولات الشائعة أن جهل الإنسان بموعد موته ومكانه وكيفيته أفضل. وأنا أبدًا ما اقتنعت بهذه الفكرة. كيف يكون الجهل أفضل من العلم فى أى مجال؟؟. الحقيقة دائمًا قاسية. والموت بلا شك هو الحقيقة الوحيدة المطلقة. ومعرفة وقته، ومكانه، وكيفيته، هى من أقسى الأمور. لكننى أفضل قسوة الحقيقة، عن رحمة الأوهام. إن التخطيط فى كل شىء هو أساس إرادة الإنسان، ومقياس نجاحه وقدرته على مواجهة التحديات يختلف فى قسوته ومصائبه. نحن نخطط لأشياء أقل أهمية من الموت. نخطط للشغل والدراسة والزواج والإنجاب والسفر والفسح، وعمل فلوس، وأخذ مناصب، وتأمين مستقبل لأولادنا وبناتنا وأحفادنا، نخطط لارتكاب الجرائم، ونخطط للكذب والتضليل. لا نخطط للموت، إلا فى توفير مقبرة لائقة بمستوانا وطبقتنا وترحُّم الأحياء علينا. أما التخطيط للموت فلا يخطر على بالنا. أولًا لأنه مجهول الميعاد والمكان والكيفية. وثانيًا لأننا نعتقد أن هذا رحمة بنا، وبالتالى نشعر بالامتنان لأننا لا نعرف شيئًا من أمره. يقول الناس إن العلم بأبعاد الموت، موعده ومكانه وطريقته، سيُصيب الإنسان بالكآبة والجزع واليأس والاكتئاب والعبث واللاجدوى. وهذا ما أرفضه قلبًا وقالبًا. معرفة موعد الموت ومكانه وكيفيته أراها على العكس تمامًا حافزًا على المزيد من النشاط، وعدم تأجيل الأشياء، ومحاربة الكسل والخمول والاستسلام والخضوع. ستجعلنى أكثر حكمة ومحاسبة ذاتى أولًا بأول، وتجعلنى أشتغل بكل طاقتى، وأفعل كل ما فى قدراتى، ستجعلنى أكثر تواضعًا وأكثر خيرًا. إذا علمت بموعد موتى، حتى دون مكانه أو طريقته، فسأجتهد أن أنهى كل أعمالى الناقصة، وأن أرى مَن أحبهم أكثر، وأن أقول ما لم أستطع قوله كاملًا، يعنى أكون عارفة «راسى من رجليَّا» كما يُقال، ولا يفاجئنى الأمر، وألاقى الدنيا اتكركبت فوق دماغى، ودماغ مَن أحبهم، ويحبوننى.

لو عرفت موعد موتى، فسأرتب البيت وأنظم الأوراق وأترك كل شىء منظمًا مرتبًا، لا يحتاج لأى رعاية من بعدى، فأشعر بالاطمئنان وراحة الضمير. وهناك فائدة أخرى مهمة إذا عرفت موعد موتى، وهى أننى لو مرضت فلن أنفق المال على العلاج وإجراء تحاليل وأشعات وجراحات، أعرف أنها دون جدوى. وهكذا، لن أُعرض جسدى للبهدلة فى المستشفيات واستنزاف الأطباء وغشهم، وأخطائهم القاتلة، التى تمر دون حساب وعقاب.

المتشائم الجميل الفيلسوف الألمانى أرثر شوبنهاور 22 فبراير 1788- 21 سبتمبر 1860
مرت، يوم 21 سبتمبر هذا العام، الذكرى 163 لرحيل الفيلسوف الألمانى، الذى أعطوه لقب الفيلسوف المتشائم «أرثر شوبنهاور». وهو لم يؤثر فقط فى الفلاسفة. ولكن أيضًا، وبدرجة كبيرة، فى الأدباء والعلماء ومؤلفى الموسيقى. جاءه التقدير أكثر بعد رحيله، وليس فى حياته. ولم يكن بالتقدير اللائق بتفرده، وأصالة بنيانه الفكرى المبدع، وشجاعته فى محو أوهام العالم.

لقبوه «فيلسوف التشاؤم» لأنه سكب المخدرات المختلفة، التى يشربها الناس لإخفاء الحقيقة، فقد أكد أن العالم ما هو إلا شرور وآلام وملل وأوهام وغباء وضعف. ويعتقد أن الانتحار وسيلة إيجابية للتخلص من هذا العالم المخيب للآمال. وقال إن أجمل شىء فى هذا العالم الشرير هو العزلة والنوم. كتب كثيرًا عن تطفل الناس وحرية الإنسان والموت وإنجاب الأطفال والعواطف والملكات الفلسفية وجوهر مأساة البشر. وشغف بصورة خاصة بالإرادة الإنسانية، فأنتج أشهر أعماله «العقل كإرادة وفكر» 1818، والذى لم يتم الاحتفاء به كما يليق. وكان لهذا الموقف أكبر الأثر فى إصابته بالضيق إلى حد التشاؤم، وكتب عبارته الشهيرة: «كتابى هذا كالمرآة، عندما ينظر فيها حمار، لا يتوقع أن يرى وجه ملاك». وبالنسبة لقضية التفاؤل والتشاؤم، فأنا أتفق مع «شوبنهاور» فى أنه لا مفر من طبيعة العالم المنطوية على الخداع والشر، والتى دفعته إلى اعتقاد أنه لا خير ولا أمل فيما نعيشه. وأرى أن التفاؤل أو التشاؤم يثير مدى قدرة الإنسان على «التكيف» مع العالم، وطموحه إلى التغيير. ولهذا فإننى أتفق مع الكاتب الأيرلندى «جورج برنارد شو»، 26 يوليو 1856- 2 نوفمبر 1950، والذى قال: «المتفائل والمتشائم كلاهما ضرورى للمجتمع، فالأول اخترع الطائرة، والثانى اخترع مظلة الإنقاذ».

وكتب بسخريته المعهودة المحفزة على التفكير الصادم: «الإنسان العاقل يكيف نفسه مع العالم. الإنسان غير العاقل يكيف العالم مع نفسه. ولهذا فإن كل تقدم فى الحياة يعتمد على الإنسان غير العاقل». والإنسان غير العاقل هو «المتشائم» بلغة شوبنهاور.

اليوم العالمى للألم
من تجاربى الخاصة مع الألم، أقول إن كل الأشياء «الجميلة» تنطوى على قدر ما من الألم. المنظر الجميل مؤلم. الذكريات الجميلة مؤلمة. الفن الجميل مؤلم، والإنسان الجميل مؤلم.

علمتنى الحياة ألّا أخاف لحظات الألم. علمتنى أن أفتح لها الباب، أُحسن استضافتها، أتعطر، وأرتدى لها أجمل أثوابى. أجالسها وأشرب معها نخب زيارة، لست من الحماقة، أو التطفل، لأردها.

الإنسان القادر على التألم العظيم هو وحده القادر على الإحساس العظيم. هو المثقف الأكبر، والمتحضر الأرقى، القادر على إعطاء الآخرين إضافة حقيقية، من المعرفة، والمحبة، والفرح.

إننى أتحمل الألم من أجل سعادتى القادمة. مَن لا يتألم لا يمكنه الإحساس بالسعادة.

الألم أهون من اليأس، الذى يدمر إرادة الإنسان، ويخدعه بأن كل شىء باطل، لا نفع ولا جدوى من ورائه.

بطاقة الألم الشخصية هى أصدق تعبير عن داخلنا، وعلاقتنا بأنفسنا، وبالحياة، فالألم يفضح مَن نكون، وكيف سنصبح فى المستقبل. كل ما نُخفيه يُظهره الألم بكل سلاسة، كما المرآة.

ولا أعرف لماذا لا يوجد «اليوم العالمى للألم»؟. وهو يوم نتذكر فيه الإضافات الجميلة التى شعرنا بها، بعد تحمل الألم. ونتشارك تجاربنا الحميمة مع الألم، فتزداد قدرتنا على مواجهة الألم، وفهم دوره فى النفس البشرية.

خِتامه شِعر

ماتت

مَن كانت تحتضن البكاء

بشوق جارف تنتظرنى

مَن منحتنى السلوى والعزاء

تطعمنى تحمينى

تروينى تدللنى

ماتت مَن فى الليل تغطينى

وصباحًا بالقهوة المحوجة كانت تأتينى

تعرفنى وتشبهنى

تمدحنى وهى الأفضل مِنى
نقلا عن المصرى اليوم