ياسر أيوب
بدون الرجوع للصحفى والكاتب الإنجليزى روجان تايلور .. والصحفى والكاتب الأمريكى فرانكلين فوير .. سيبقى تعاقد أحد أندية الكرة المجرية منذ أيام قليلة مع طالب جامعى لم يسبق له لعب الكرة أصلا مجرد خبر قد لا يستحق التوقف والاهتمام رغم غرابته وإثارته .. أو مجرد حكاية فساد كروى أخرى بعدما تبين قيام والد الطالب بالتبرع لهذا النادى بالمال مقابل تسجيل ابنه لاعبا محترفا فى النادى .. لكن سيتغير الأمر تماما بقراءة ما كتبه تايلور فى كتابه الجميل عن النجم المجرى الاستثنائى بوشكاش وأيضا ما كتبه فوير فى كتابه العميق عن كيف فهم العالم باستخدام كرة القدم .. فليس هناك أهم من هذين الإثنين تحديدا لأى أحد يريد ويحاول أن يفهم سر العلاقة بين كرة القدم وأى مجتمع فى العالم وليس المجتمع المجرى فقط .. ومتى يمكن بكرة القدم أن تقود تغييرا فى المجتمع أو تصبح أول من يدفع ثمن هذا التغيير .. وكيف يمكن باستخدام كرة القدم وأحوالها وحكاياتها فهم ومتابعة وتحليل ما يجرى فى المجر وأى بلد أخرى

وكان روجان تايلور قد سافر فى 1994 إلى بودابست ليستكمل كتابه عن النجم الكبير بوشكاش .. وحرص فى بداية زيارته للعاصمة المجرية الذهاب إلى استاد بوشكاش لمشاهدة مباراة المجر وتركيا فى تصفيات أمم أوروبا وانتهت بالتعادل بهدفين لكل منتخب .. ومثلما خرجت المجر من تلك التصفيات .. خرج تايلور من الاستاد بكثير من الأسئلة .. ماذا جرى للكرة المجرية التى كانت فى الماضى حديث الدنيا .. ولماذا جاء قليلون لهذا الاستاد لتشجيع منتخب بلادهم بينما كان نفس الاستاد يمتلىء ويفيض بالوجوه والأعلام والارتباط بالمنتخب والنجوم الكبار مثل بوشكاش وكوتشيش وبوتزيك وتشيبور وهيديكوتى وغيرهم .. فالمجر فى الخمسينات القرن الماضى كانت أحد أقوى منتخبات العالم وهى التى اخترعت الكرة الشاملة قبل هولندا بسنين طويلة .. حتى أن خسارتها المفاجئة أمام ألمانيا فى نهائى مونديال سويسرا 1954 اعتبرها الجميع معجزة للألمان حملت بعد ذلك لقب معجزة بيرن

وكان حب كرة القدم وقتها هى الحرية الوحيدة التى يمارسها أبناء المجر بصرف النظر عن أن هذا الإستاد العظيم لم يبنه إلا المساجين الذين أغلق عليهم ستالين ديكتاتور موسكو أبواب الزنازين .. وإستغلت السلطات المجرية حبس كل هؤلاء الكثيرين ليبنوا هذا الصرح الرياضى الذى تم إفتتاحه فى عام 1953 .. وكأنما كان ذلك ضروريا لتكتمل المعادلة .. فسجناء الرأى والفكر يبنون ملعبا ليمارس فيه باقى الناس حريتهم الوحيدة الباقية حتى لا تنكسر المجر تماما .. فإذا كانت قد إنكسرت أمام الدبابات السوفيتية فإنها لم تنكسر أمام كل الدنيا فى أى ملعب للكرة .. لكنها معادلة لم تبق قائمة طويلا من الوقت .. إذ سرعان ما إنهارت الكرة المجرية مثل أى شئ آخر .. انهارت لأسباب كثيرة أهمها كان محاولة الكثيرين فى المجر استغلالها سياسيا وإعلاميا فلم تبق لعبة للناس ولم يعد يحبها الناس بعد أن تأكدوا أنها لم تعد لعبتهم .. وباتت الأندية مع استثناءات قليلة أندية ضعيفة منهكة القوى وتشارك بلا طموح حقيقى .. والجميع يلعبون مبارياتهم وكأنهم موظفون يؤدون مهمة رسمية ثقيلة الدم مضطرون لأدائها من أجل تقاضى المرتب الضئيل آخر كل شهر
وبعد سبع سنوات على صدور كتاب روجان تايلور عن بوشكاش وما جرى للكرة المجرية واضطرار بوشكاش للهرب من بلاده واللعب لريال مدريد ثم منتخب إسبانيا أيضا .. صدر فى 2004 الكتاب الشهير والمهم للغاية لفرانكلين فوير .. كيف تشرح أو تفسر كرة القدم العالم .. لم يكتبه فوير إلا بعد مشاوير ورحلات كثيرة لشرق أوروبا ومنها المجر وأيضا إيران وبلدان أخرى .. ولم يختلف ما قاله فوير عما سبق وقاله تايلور عن كرة القدم التى غالبا تكون الضحية الأولى لمطامع السياسة وحساباتها .. وأنه يمكن بكرة القدم تفسير كل ما جرى فى المجر طيلة خمسين سنة وما شهدته البلد من تحولات حادة فى مختلف المجالات ..

الرياضة وملائكة وشياطين إعلام أوروبا
وعلى الرغم من تغييرات إيجابية عاشتها المجر بعد سقوط برلين وانهيار النظام الشيوعى .. لم تستفد الكرة المجرية كثيرا من تلك التحولات ولم تقترب حتى من مجدها القديم الذى كان .. ومن المفارقات أن رئيس الحكومة المجرية الحالى .. فيكتور أوربان .. هو أحد عشاق كرة القدم .. عاش طفولته فى قرية صغيرة تعلم فيها حب كرة القدم ليصبح فيما بعد لاعبا محترفا وأسس بعد اعتزاله فى تلك القرية ناديا كرويا يلعب فى الدورى المحلى ويحرص أوربان على مشاهدة مبارياته .. وأسس أيضا أكاديمة بوشكاش لرعاية الموهوبين الصغار .. ورغم ذلك بقى الإعلام الوروبى يحارب الرجل الذى حين عاد إلى السلطة فى 2010 .. أعلن رفضه الاعتراف بأى حقوق للشواذ والمثليين وبدأ محاولات جادة لإصدار قوانين رسمية تمنع الاعتراف بأى حقوق لهم لتعارض ذلك مع القيم والتعاليم المسيحية ..

وفى 2020 رفضت حكومة أوربان بشكل قاطع الاعتراف بأى حقوق للمتحولين جنسيا مما أثار غضب كثيرين فى أوروبا .. وفى 2021 بدأ أوربان حربه ضد أى كتب وروايات وأفلام سينمائية وإعلانات تسهم فى الترويج لفكرة المثلية الجنسية فاعتبرته أوروبا عدوا لحقوق الإنسان ورأته حليفا للرئيس الروسى بوتين الذى أعلن الحرب على الشواذ والمثليين

لكن المؤكد أن أوربان لم يتدخل فعليا لإصلاح الكرة المجرية رغم عشقه لها .. ولهذا كله كان من الطبيعى أن يستشرى الفساد الكروى فى المجر وأن يكبر يوما بعد يوم على حساب اللعبة ومستقبلها وجمالها ونزاهتها .. حتى كان الذى جرى الأسبوع الماضى حين تعاقد نادى أوستى ناد لابيم فى الدرجة الثالثة للدورى المجرى مع طالب فى كلية الحقوق اسمه مارتن بوداجسكى .. ولم يكن هذا التعاقد هو المشكلة .. ولم تكن تتعلق أيضا بحجم موهبة مارتن أو احتياج النادى له كلاعب محترف .. إنما كانت ببساطة أن مارتين لا يلعب الكرة أصلا ولم يتعاقد معه النادى إلا بعدما تبرع والده بما يوازى 21 ألف دولار للنادى مقابل قيد ابنه كلاعب محترف .. وكانت المشكلة الأكبر من ذلك هى ما قاله رئيس النادى بعد اكتشاف الأمر وحديث الإعلام الكروى الأوروبى كله عن هذه الحكاية .. فلم يعتذر لكنه أكد استعداده لتكرار الأمر مقابل مبلغ مماثل من المال
نقلا عن الأهرم الرياضى