حلمي النمنم
الحديث عن الجامعة فى مجتمعنا وحياتنا العامة له أدبيات خاصة، مثلًا نحن لا نقول مقر الجامعة ولا المبنى الجامعى، نفضل كلمة «الحرم الجامعى»، كلمة الحرم لها احترام ومهابة خاصة، فيها عبق نفسى وروحى خاص، قد تقترب من الورع الدينى، لذا فإن دخول هذا الحرم له شروط وقواعد أو معايير خاصة، على مستوى الطلاب والدارسين والباحثين، ويمتد الأمر إلى العاملين بالجامعة من إداريين وغيرهم.
هذا التعامل مع الجامعة والنظر إليها ليس وقفًا علينا ولا خاصًّا بنا، الجامعة فى أى دولة بالعالم لها مكانة مرموقة، وتحظى بتقدير خاص رسميًّا وشعبيًّا، تأمَّلْ مكانة جامعات السوربون فى فرنسا، أكسفورد وكامبريدج فى بريطانيا، هارفارد فى الولايات المتحدة وغيرها.
منذ أكثر من عقد ونصف العقد، كنت فى إحدى المدن بجنوب الهند، ودُعيت إلى إلقاء محاضرة هناك عن الحالة الثقافية فى مصر المعاصرة، وفوجئت عند مدخل المدرج أنه يجب خلع أحذيتنا، المدرج الجامعى مكان له قدر من الوقار الدينى.
ويبدو أننا بِتْنا فى زمن انتهاك الحرمات، والدليل ما وقع فى جامعة القاهرة (الجامعة الأم)، يوم الأربعاء الماضى، حيث دخل أحد الموظفين (الحرم الجامعى)، واتجه إلى مبنى كلية الآثار، وأطلق عدة رصاصات على زميلة له، ثم ركب سيارته وخرج.
فى الساعات الأولى للحادث بدا أن بعض المواقع الإخبارية لا تزال تحت وقع ذبح طالبة جامعة المنصورة نيرة أشرف بسكين زميلها المُتَيَّم بها محمد عادل، ومع الرغبة فى تحقيق السبق الإعلامى وجدنا سيلًا من الأخبار دون مصادر مؤكدة ودون تدقيق، وهكذا جاءت الأخبار الأولى أن «نورهان»، موظفة كلية الآثار، قُتلت برصاص مُحِبّ ولهان رفضت خطبته لها، ثم تطور الخبر ليصبح زوجها وأن خلافات حادة بينهما، فذهب يعاتبها فى مقر العمل، فتطور الموقف إلى القتل، بعد دقائق صار فى خبر آخر طليقها وأن المسكينة قُتلت بسبب مشاكل ما بعد الطلاق، وهكذا تفاصيل واجتهادات فى منطقة العواطف والمشاعر الملتهبة والمضطربة والعلاقات غير الناجحة عاطفيًّا واجتماعيًّا، والخيال الدرامى راح ينشط، وأعداء المرأة راحوا يستعدون بسرديات للدفاع عن القاتل ومحاولة تبرير الجريمة واختلاق الأعذار، كما حدث أيام التعاطف مع قاتل «نيرة»، إلى حد جمع عدة ملايين للدفاع عنه والحصول على براءته!. بعض التعليقات ذهبت فى طريق تحويل الجريمة إلى حادث عادى وطريف، ربما نكتة.
فى المساء، بدأ تدقيق المعلومات حول الحادث، الأمر كله ليس فيه حب من جانبه أو صَدّ ونكران منها، لا شىء من ذلك، لا حب.. لا زواج.. لا طلاق، بل كراهية عميقة داخله حملها نحو زميلته، فقرر أن يُرْدِيَها.
المستقر من المعلومات الآن، وفق حديث والدها وزميلاتها المقربات، أن القاتل انتحر فى مساء نفس اليوم، كان زميلًا لها، وحدث أن اعتدى على رئيسه بالضرب المبرح، وتم التحقيق فى الواقعة، وانتهى هذا كله بالحكم عليه بالسجن، نورهان كانت الوحيدة، فيما يبدو، بين زملائها التى قررت عدم كتمان الشهادة وألّا تكون الشيطان الأخرس، بذريعة «الأنا مالية» حينًا أو «ابعد عن الشر وغنى له»، هى ذهبت وأدلت بشهادتها، فقرر أن ينتقم منها، الانتقام لدى البعض يبدأ بالقتل، ليس أقل من ذلك.
«نورهان» فى ذمة الله شهيدة، و»أحمد» فى ذمة الله منتحرًا، الواضح أن التحقيقات سوف تتوقف عند النهاية التى وضعها هو لحياته، تفاصيل المسألة قد تكون مفيدة للباحثين فى القضايا الاجتماعية والنفسية، فضلًا عن المتخصصين فى علوم الجريمة، ولا نملك سوى تقديم العزاء لأسرتى كل منهما.
لكن تبقى عدة تساؤلات تتعلق بشأن إدارى فى الجامعة.
لو صح أن «أحمد» قضى عقوبة السجن لإدانته بضرب رئيسه فى العمل، فهل يُعقل أن يخرج من السجن ويعود إلى وظيفته نفسها؟!، كل ما حدث أن يتم نقله من كلية الآثار إلى رعاية الشباب فى كلية رياض الأطفال، هل مَن يحمل تلك الخلفية الجنائية يوضع فى مثل هذا المكان؟!.
ما وقع منه مع رئيسه إداريًّا فى كلية الآثار يدل بوضوح على أنه قد يكون غير متزن نفسيًّا، ويحمل ميلًا إلى العنف، ومن ثَمَّ كان يستحق تعاملًا إداريًّا من نوع آخر، يبدأ بإحالته إلى فحص نفسى، ولا أظن أن الجامعة بمستشفياتها وعياداتها وما بها من أساتذة تعجز عن ذلك، إذا لم تشأ أن تُحيله إلى مستشفيات وزارة الصحة.
ورحم الله أيام الحرس الجامعى، نحن بإزاء موظف يذهب إلى عمله، ويحمل مسدسًا معبَّأً بالرصاص، لا نعرف هل كان المسدس مرخصًا أم لا، وحتى لو كان مرخصًا فكيف يُسمح له بالدخول إلى «الحرم الجامعى» ومعه المسدس؟!.
فى واقعة نيرة أشرف، عبر بعض المسؤولين بجامعة المنصورة عن اطمئنانهم لأن الجريمة لم تقع داخل الحرم، وقعت فى الشارع، على بُعد أمتار من البوابة الرئيسية، لكن لم ينتبه كثيرون داخل الجامعة وخارجها إلى اعترافات محمد عادل أمام النيابة العامة، حيث قال محمد عادل إنه دخل الجامعة- المنصورة- ومعه السكين الحاد (سلاح أبيض)، أكثر من مرة، وجاب الكلية عدة مرات بحثًا عن نيرة أشرف كى يذبحها داخل الحرم الجامعى، لكن كانت هى تخرج بسرعة، فقرر أن يتربص بها أمام البوابة، فهل بات يسيرًا إلى هذه الدرجة أن يدخل تلميذ أو موظف الجامعة مسلحًا؟!. لا فارق بين السلاح الأبيض أو النارى، الواقع أننا لو مددنا الخطوط على استقامتها فهل يصعب على إرهابى أو أكثر دخول الحرم الجامعى بأى أسلحة أخرى، متفجرات، أحزمة ناسفة وغير ذلك، وإذا كان موظف يدخل ويخرج بسيارته بأقصى سرعة، دون أى إجراء يُتخذ، فماذا لو أنه عبّأ السيارة كلها بترسانة أسلحة؟!.
فى واقعة الأربعاء الماضى- ٢٧ سبتمبر- بجامعة القاهرة، انتقل الموظف من مقر عمله إلى الحرم الجامعى ودخل هكذا، مفترض أن يكون مكلفًا بعمل ما هناك، وأن يتم استيقافه على البوابة الرئيسية للتأكد من سبب الدخول رسميًّا، وأن يتم التأكد من عدم وجود سلاح معه، لكن من الواضح أن شيئًا من ذلك غير معمول به، الدليل أنه دخل أهلًا، ونفذ جريمته وخرج سهلًا. بعض الذين شاهدوا سيارته فى طريق الخروج قالوا إنه كان مندفعًا داخل الجامعة بأقصى سرعة، الواضح أنه لا أمن إدارى كفء، لا تأمين من أى نوع. بعد ارتكاب الجريمة راحت بعض الحكايات والوقائع تترى عن ضعف التأمين داخل بعض الجامعات، مبنى إحدى الكليات يطل على شارع رئيسى، سُرقت منه أجهزة التكييف على يومين متتاليين، مغزى الحكاية أن اللصوص تحركوا بأريحية، وأتَمُّوا المهمة فى ليلتين.
ولابد أن نحمد الله على لطف قضائه أن جريمة يوم الأربعاء توقفت عند الشهيدة نورهان، فماذا لو أن بعض زميلاتها وزملائها اعترضوا طريق القاتل المسلح..؟، ثم ماذا لو كانت الجامعة فى يوم دراسى وكان الحرم مزدحمًا بالطلاب والطالبات، خاصة أن الكليات النظرية كثيفة العدد، كلية الآثار يجاورها مباشرةً مبنى كلية دار العلوم.. فماذا كان يمكن أن يحدث لحظة إطلاق الرصاص من تدافع، وربما اشتباك مع القاتل، ثم إطلاق المزيد من الرصاص؟!.
ما جرى فى جامعة القاهرة وقبلها فى جامعة المنصورة وغيرهما حوادث فردية وليست ظاهرة عامةً، هذا على مستوى الجريمة، لكن واضح أنه فى العديد من جامعاتنا، وهى مؤسسات تعليمية وبحثية فى المقام الأول، لا قواعد تأمين منضبطة وصارمة من تلك التى نراها فى كثير من المؤسسات ومواقع العمل فى كل مكان سواء فى مصر أو غيرها من بلاد الدنيا كلها.
استقر الأمر على عدم وجود حرس جامعى، لكن ينبغى أن تكون هناك قواعد أمنية وما يسمى الأمن الإدارى أو الخاص بكل مؤسسة، ويُفترض فيه أن يكون أشد كفاءة ونجاعة من الأمن التقليدى.
ما حدث فى مبنى رعاية الشباب بكلية الآثار فى أعرق جامعاتنا يستحق الدراسة والانتباه جيدًا إلى المخاطر والجرائم التى يمكن أن تقع داخل الجامعة مع ضعف القواعد الإدارية وتراجع تأمين الحرم الجامعى، تأمين المنشآت والمبانى.. تأمين الطلاب والطالبات والعاملين بها، الحفاظ على العملية التعليمية، خاصة أننا نبدأ هذا الأسبوع عامًا جامعيًّا جديدًا، وهناك ميل لدى البعض إلى العنف، وهناك كذلك مَن يمكن أن يتعمّد اختلاق واصطناع العنف لدوافع سياسية أو أيديولوجية.
أتمنى أن يُدرس الأمر على مستوى المجلس الأعلى للجامعات وكذا السادة رؤساء الجامعات والقطاع الإدارى بكل جامعة.
نقلا عن المصرى اليوم